الكفء والخريج والوهم القاتل!
هوية بريس – عبد الحميد بنعلي
الخريج: لقب يدل على استكمال هذا الشخص للمرحلة التعليمية الجامعية، وحصوله على إفادة بذلك تسمى (الليسانس) أو (الإجازة) أو (البكالوريوس) وتسمى أحيانا (العالمية)
ثم قد يكون هذا الخريج كفئا، وقد لا يكون كذلك، والغالب من حال الخريجين قلة الأكفاء فيهم، بمعنى أن في كل 100 خريج يحتمل وجود شخص إلى شخصين ذوي كفاءة علمية عالية في هذا التخصص أو ذاك.
ولكي تتأكد من هذه الحقيقة تأمل في دفعتك التي تخرجت معك، ثم احزر وقدر كم عدد الذين تعترف لهم بالعلم والكفاءة العالية واستحقاقهم لنيل المناصب وقيادة الجيل، وبذلك تصدمك الحقيقة.
وهذا الأمر مطابق للحديث النبوي الصحيح: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم (الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة)، والمعنى -كما يقول شراح السنن- :”لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه، والرواية بإثبات لا تكاد أولى لما فيها من زيادة المعنى ومطابقة الواقع وإن كان معنى الأول يرجع إلى ذلك”.
وقال القرطبي: “الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة”.
وأما الكفء: فالمقصود به العليم بفنه، الفهيم له على وجهه، بحيث إذا مكن مما هيئ له جاءت النتائج كأحسن ما ترى وأجود ما يكون.
وهذا الكفء من لوازم حاله أنه خريج أيضا، وإن كان قد يوجد في الناس كفؤ بحِرفة ما أو علم ما لم يسلك إليه سبيله النظامي المعتاد، وهذا لأن الحِرف تكتسب بالتجارب أكثر مما تكتسب بالعلم، والعلم مبذول لمن طلبه، وهو سهل ميسر، وليس من شرطه حقيبة مدرسية، ولا مؤسسة حكومية، ولا حمل أثقال الدفاتر كل يوم !
فإذا علمت هذا التقسيم علمت لماذا يدب الفساد في كثير من المؤسسات والمشافي والقطاعات العامة والخاصة، فإن لم تدرك السبب فأنا أسعفك به بعبارة بينة، وهي:
أن جودة العمل في أي مجال وأي ميدان لا تتطلب (الأوراق المجموعة)، ولا (الشهادات المزركشة)، ولا (الألقاب والرتب الأكاديمية الفخمة)، ولا حتى (المواطنة=الجنسية) إنما تتطلب الفكاءة فحسب، ولكن الذي جرى وما زال يجري هو توظيف معظم هؤلاء الخريجين بمجرد حصولهم على شهادة التخرج بغض النظر عما إن كانوا أكفاء أو ليسوا كذلك.
حقا إن جل المؤسسات الوظيفية تضع مجموعة من المعايير قصد حصولها على الموظف المناسب، لكنها معايير على كثرتها متاحة لغير الأكفاء أيضا، مثل كثرة الأبحاث، وكثر الورش العلمية، وكثرة المؤتمرات والندوات الخ، هذا إذا سلمنا بخلو الوظيفة من أي تدخل وشفاعة ورشوة وإلا فالواقع له رأي آخر.
بل إن هؤلاء الفاقدين للكفاءة قد وجدوا في هذه المعايير فرصة ذهبية لتجاوز كل كفء وإن كان شافعي زمانه، أو سحبان عصره.
وكم قد رأينا من أناس تنوء بسيرهم الذاتية الرجال الأشداء، وينادى عليهم بعظيم الألقاب، وتزدان بهم المحافل، وهم مع ذلك في غاية من الضعف والهزال، ورأينا في مقابل هؤلاء أناسا ليس معهم إلا وثيقة التخرج، وهم -والله- بحار تقذف، وأنهار تجري، وقمم شامخة، وما أزرى بهم إلا اتكالهم على علومهم، وانشغالهم بالتحصيل العلمي عن التحصيل الورقي مع عزة في النفس وافرة، ولسان حالهم:
ولم أقضِ حَقَّ العلمِ إن كان كُلَّمَا
بدا طَمَعٌ صَيَّرتُه لي سُلَّما
وما زلتُ مُنحازاً بعرضيَ جانباً
من الذلِّ أعتدُّ الصيانةَ مَغنما
إذا قيلَ هذا مَنهلٌ قلتُ قد أرى
ولكنَّ نفسَ الحرِّ تَحتَملَ الظَّمَا
والواقع: أن الاعتماد على الورق إنما هو شأن المتخلفين وحدهم، حتى إنهم يتركون البحار الهائجة، ويعتاضون عنها بالركايا والبرك، وأذكر أن أول ما فتحت شعب الدراسات الإسلامية في المغرب أنفوا من توظيف العلماء المعممين أصحاب العلم والمهابة لا لشيء إلا لأنهم لا يحملون شهادات أكاديمية !!!
أما الأمم السابقة في الصناعات فلا يعبؤون بالأوراق، ولا يرفعون بها رأسا، بل قصدهم الكفاءة لا غير، وقد عجبت حين رأيت مجموعة من (الحراكين) ينالون مناصب عليا في دول أوروبا، مع أنهم لا يحملون أي وثيقة!، وقبل بضع سنوات ألقت أمريكا القبض على هاكرز مغربي فاتخذته غنيمة، وحولته إلى موظف مرموق في الإف بي آي !!
الخلاصة: طالما لم يتدارك هذا الوضع، ولم تقصر المناصب على الأكفاء سيستمر الفساد معشعشا في جميع القطاعات والميادين التي ينهال عليها (الخريجون) بالألوف المؤلفة.
وللحديث بقية إن شاء الله.