الكنبوري: الفتوى لا يجب أن تكون محتكرة من جهة معينة ونحن بحاجة إلى مؤسسة دينية تسع الجميع
هوية بريس – حاوره: نبيل غزال
– بعد الحرب على الإرهاب ارتفعت مطالب تقنين الفتوى بدعوى أنها تحولت إلى خطاب ينتج الكراهية ويحرض على التكفير والقتل والعنف. ما تعليقك؟
لا شك أن الفتوى تحولت إلى وسيلة لنشر الكراهية والعنف والتكفير في العالم العربي الإسلامي منذ أن بدأت ظاهرة الإرهاب، فالجماعات المتطرفة وأتباع السلفية الجهادية يوظفون الفتاوى الدينية لأغراض معينة، وهو ما نتج عنه تكفير المجتمعات والأفراد، وأدى إلى تشويه مفهوم الفتوى الدينية في الإسلام.
ومعروف أن منظري تنظيم القاعدة كانوا يعطون فتاوى لبعض السلفيين في المنطقة المغاربية مثلا، تشجعهم على تكفير الدولة والمجتمع وتنفيذ أعمال إرهابية، وبين تلك الفتاوى الشهيرة فتاوى أبي قتادة الفلسطيني المسماة “الأجوبة العمرية على الأسئلة المغربية”. ولذلك دعت الضرورة إلى تقنين الفتوى حتى لا يقع التسيب والتوظيف الجماعاتي للفتاوى الدينية، بحيث يتحول الأمر إلى فوضى قاتلة باسم الإسلام والفتوى.
– مجال الفتوى يعاني من بعض اختلالات؛ من مثل: إصدار فتاوى في قضايا حساسة من غير متخصصين، والحاجة إلى خبراء في الفتوى في بعض الميادين. كيف يمكن ضبط مجال الفتوى وفي نفس الوقت توفير أطر أكفاء للقيام بهذا الواجب الديني؟
أعتقد أنه لا يجب الحديث عن الفتوى بعيدا عن الواقع الثقافي والديني الذي نعيشه، بمعنى أنه يجب النظر إلى مسألة الفتوى في إطار سوسيو ـ ثقافي في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم.
إن التردي الثقافي والتعليمي وضعف منسوب التعليم الديني في مؤسساتنا التعليمية والهبوط الأخلاقي وظهور التدين السياسي كلها عوامل أثرت على قضية الفتوى.
ففي الماضي كان العالم يتردد ألف مرة قبل أن يعطي فتواه، وكان العلماء يخشون إبداء الفتوى مخافة السقوط في الخطأ، لأنهم كانوا ينطلقون من أنهم “موقعون عن رب العالمين” كما قال ابن قيم الجوزية، ويروى أن الإمام مالكا سئل عن أربعين مسألة فتكلم في أربع منها وسكت عن الباقي وقال لا أدري.
فهؤلاء كانوا على درجة من التدين بحيث كانوا يعرفون أنهم مسؤولون. وعندما كان العالم يقول إنه لا يدري فلا يعني ذلك عدم الدراية من حيث الاطلاع العلمي، بل أيضا من حيث معرفة السياقات والحيثيات والخوف من إنزال الفتوى في غير محل، لأن الفتوى في أصلها هي النظر إلى الواقع من خلال النص، سواء كان النص أصليا مرجوعا إليه أم كان أساسا لعملية قياس.
ولكن اليوم نلاحظ تراجع الورع في أمر الفتوى، والجرأة على اختراق كل المساحات، واستباحة الكلام في الدين بغير علم ولا كتاب منير كما يقال، وطبيعي في مثل هذا الوضع أن تكثر الفتاوى الجاهلة التي تكون حافزا على السخرية من الإسلام نفسه لا من صاحب الفتوى.
إن تقنين الفتوى في الواقع يطرح مشكلات كبرى. فالأصل في الفتوى أنها حرة وأنها لا يجب أن تكون محتكرة من طرف جهة معينة أو أشخاص معينين، وإلا تحول الأمر إلى كهنوت ديني كما حصل في اليهودية والمسيحية، وسيظهر الأمر كما لو كان بالفعل تكميما لأفواه العلماء الحقيقيين بدعوى تقنين الفتوى.
ولكن في المقابل هناك دولة حديثة ومؤسسات وهناك حاجة إلى الضبط الاجتماعي من خلال ضبط الفتوى الدينية، خاصة في ظروف اليوم. وأعتقد أننا بحاجة إلى التوفيق بين الأمرين من خلال إفساح المجال أمام جميع العلماء عبر مؤسسة دينية تسع الجميع، بمعنى: لا يجب أن يحتكر علماء محددون مهمة الفتوى فقط لأنهم “أعضاء” في مؤسسة للفتوى، بل يجب على هذه المؤسسة أن تستشير علماء آخرين من خارجها، لأن الفتوى ليست وظيفة بل مسؤولية، وبذلك يتم توسيع مجال النظر وضمان إتاحة المجال أمام الجميع، والمهم هو لا تكون الفتوى مباحة في المجال العام بما يؤدي إلى حالة من الفوضى.
هل حققت الهيئات الإفتائية الرسمية المنتظر منها، وهل تحظى بالمصداقية المطلوبة لدى المؤسسات والمواطنين؟
لا يمكن في غياب الإحصائيات الحديث عن مصداقية من عدمها، بحيث يجب أن نعرف إلى أي حد تشكل الفتوى الدينية اليوم قلقا بالنسبة للمواطن، وهل هذا الأخير يطلب الفتوى في كل أموره المعاشية.
فالمعروف أن المغاربة يلجأون في الغالب إلى المواقع المشرقية وعلماء المشرق إذا أرادوا معرفة ما يهمهم من أمر الدين. وتزداد الأمور صعوبة لأننا لا نجد أن الهيئة المكلفة بالإفتاء في المغرب تقدم مثلا برنامجا عموميا أمام المواطنين لكي يتم تنويرهم في الشؤون الدينية، فالغالبية لا تعرف بوجود هيئة مخصصة للفتوى في المجلس العلمي الأعلى، ولذلك نلاحظ مثلا أنه في الفتاوى التي نشرتها هذه الأخيرة وجمعتها في كتاب أن غالبية الفتاوى موجهة إلى جهات رسمية أو مؤسسات بنكية أو شبه عمومية، مقارنة مع الفتاوى الموجهة إلى المواطنين الأفراد.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الدكتور إدريس الكنبوري: باحث في قضايا العنف والتطرف والفكر الإسلامي.