الكنبوري يكتب: الأسباب العشرة لإسقاط الاستدلال بالحديبية لتسويغ التطبيع
هوية بريس – د.إدريس الكنبوري
منذ توقيع اتفاقية الإمارات وإسرائيل حول التطبيع بدأت تجري على الألسنة فتاوى وتسويغات لتلك الاتفاقية، تنطلق من إعادة قراءة محطات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتحديد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة بين المسلمين وقريش، وهو ما يسمى بالصلح، أو الهدنة، أو المعاهدة.
يأتي هذا الكلام للأسف الشديد على ألسنة العلماء والفقهاء لا على ألسنة العوام، بيد أن فساد الاستدلال وانكشاف النية يجعل هؤلاء العلماء في صف العوام، ويجعل ما يسوغون به الذل من صنف الطوام.
والقضية عندي أنه ليس من الضروري أن يتم تبرير ما تقوم الأنظمة العربية اليوم من قرارات تجاه إسرائيل بوجه خاص بالدين، وأنه من الأفضل ترك الدين بعيدا وعدم إدخال المقدس في المدنس. فهذه سياسة، وهي مثلها مثل السياسات التي تقوم بها الأنظمة العربية ليس فيها مشاورة ولا ديمقراطية ولا استفتاء ولا فتوى، فلم الإصرار على الإفتاء في التطبيع؟ وإذا كان لا بد من الإفتاء في التطبيع لم لا يجوز الإفتاء في غير التطبيع؟ لماذا يغلق هؤلاء العلماء أفواههم في قضايا أخطر تهم حياة المسلمين في معاشهم ومعادهم، ثم يفتحونها في التطبيع؟ هل لأن الفتوى اليوم صارت بجانب القوي، فيحرم منها المواطن البسيط الذي لا يجد من يقف في صفه، وتُغدق على الحاكم إغداقا لتبرير أعماله؟ وأين ما تعلمناه من أن العلماء الأكابر كانوا يترددون سبعين مرة قبل أن يعطوا فتوى، فإذا أعطوها زلزلوا الأرض تحت أقدام الحكام؟.
والعجيب الغريب أن هذا مثال فاقع لإدخال الدين في السياسة، ومن هنا نسأل: ما هو ميزان الربط والفصل بين الدين والسياسة؟.
وقد تعرض صلح الحديبية لظلم كبير وافتئات وتزوير، وهذا التأويل الخطير لحادث الحديبية يعتبر عدوانا على النبي صلى الله عليه وسلم وإساءة إليه، لا تقل إساءة عن الرسوم الدانماركية قبل بضع سنوات.
هؤلاء يستندون على أن الحديبية كانت صلحا بين المسلمين والكفار من قريش، وبين دولتين قائمتين، هما دولة المسلمين بالمدينة ودولة المشركين بمكة، كان بينهما صراع، ثم يُنزلون أحكام ذلك الحادث على أحكام اتفاقيات السلام الحديثة بين إسرائيل و”العرب”، أو بين إسرائيل و”المسلمين”.
وحى لا تُعاد الكرة مرة أخرى ويتم التلبيس على الناس ظلما، ونحن في زمن الكل يتحدث فيه عن ضرورة عدم “خيانة” النص، وعن التأويلات الفاسدة للنصوص الإسلامية، وعن سرقة الإسلام، وهلمجرا. فنرجو أننا حين نستنكر سرقة الدين أن لا نكون ـ نحن ـ من اللصوص، فإن ردنا على هؤلاء وأضرابهم سيكون على النحو التالي:
بادئ ذي بدء هناك قياس مع الفارق من حيث الطبيعة التكوينية للأمة. في تلك المرحلة كانت الأمة كلها ممثلة في المدينة ـ يثرب ـ وكان الفرز واضحا، كما كانت القيادة واحدة. بينما اليوم هناك أزيد من عشرين دولة عربية، وأزيد من ثلاثين دولة إسلامية غير عربية، فتكون أمة الإسلام فوق خمسين دولة. أما عدد المسلمين اليوم فهو فوق المليار نسمة، أي أزيد من ألف مليون. وعليه، فإن جميع الدول التي صنعت سلاما مع إسرائيل منذ نهاية السبعينات، أي مصر والأردن والإمارات، لا يتجاوز عدد سكانها المائة مليون، ليبقى لدينا 900 مليون وزيادة من المسلمين في الجانب المقابل. هذا إذا افترضنا أن جميع سكان مصر والأردن والإمارات موافقون على التطبيع والسلام مع إسرائيل، أما إن سقطت الفرضية ـ وهي ساقطة لا محالة ـ فإن الذين صنعوا السلام والتطبيع في الدول الثلاث لا يتعدى عشرين شخصا، وربما أقل.
فبأي مسوغ شرعي وعقلي يتم تنصيب ثلاثة دول ناطقة باسم كافة المسلمين، عربا وعجما؟ وهل منحت الدول الأخرى تزكية لهذه الثلاثة أو تفويضا، حتى يتم الحديث عن التبرير الإسلامي للتطبيع، وإنزال حكم قام به النبي صلى الله عليه وسلم باسم جميع المسلمين، ليكون اليوم أيضا حكما باسم جميع المسلمين، والأمر ليس كذلك؟.
ثم إن القيادة اليوم ليست قيادة واحدة، ولا يوجد مركز، بل إن هذه القيادات المتعددة ليست على قلب رجل واحد، فبأي مسوغ نتحدث باسم الأمة جمعاء، ونجهز على تجربة نبوية تاريخية تلزم كافة المسلمين، من طرف واحد؟.
فهذه ناحية أولى.
الناحية الثانية أن المسلمين في مرحلة الحديبية كانوا جسدا واحدا، وكان التآخي التام بين المهاجرين والأنصار في المدينة الذي أدى إلى بناء دولة الرخاء والمواطنة ـ وثيقة المدينة مثالا ـ والتعاون. بينما نحن اليوم نتقاتل فيما بيننا قتال العدو لعدوه، والغريم لغريمه، ولا يوجد إخاء بين المسلمين بل عداء تام، ولا يوجد أنصار ومهاجرون بل عرب وخليجيون، وهؤلاء لا يزالون يعاملون العرب كمسلمين من الدرجة الثانية ويفرضون عليهم الكفلاء للعمل هناك، وخيرات “الأمة” ـ إن كان هؤلاء العلماء يتحدثون عن السلام باسم الأمة المسلمة ـ يتلاعب بها من يريد وقتما يريد في المكان الذي يريد، بينما يزحف المسلمون في القارات الخمس على أربع من الفقر والجوع والضنك، ويختار شبابها الهجرة إلى بلاد “الكفار” الذين يكرمونهم بالعمل والسكن والضمان الاجتماعي والتمدرس، بينما يصدهم “المؤمنون” عن بلدانهم صدا. أفلا تستحق الثروة النفطية فتوى من علمائنا المكرمين، حتى لا تكون دولة بين قسم من الناس؟.
الناحية الثالثة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما صنع السلام مع مشركي مكة صنعه مع “دولة” قائمة لها جذور تاريخية وأصول قومية ونسيج اجتماعي وثقافي موحد، وهو قد صنعه أيضا بوصفه ممثلا لدولة قائمة جديدة هي دولة المدينة. ولكن إسرائيل في عصرنا هذا ليست “دولة” شرعية لها جذور تاريخية، إذ لم تنشأ إلا في عام 1948، ونشأت غصبا بتآمر من الغرب والاتحاد السوفياتي داخل الأمم المتحدة، والذين دعموا نشأتها ومدوها بالمال والعتاد هم الذين قادوا الحملات الصليبية ضد المسلمين قرونا قبل ذلك التاريخ؛ وهي ليست دولة منسجمة من حيث الطبيعة القومية لسكانها، بل هؤلاء لقطاء تم جلبهم من أصقاع العالم المختلفة.
الناحية الرابعة أن صلح الحديبية لم يترتب عنه اعتراف النبي والمسلمين بدولة قريش، أو إلغاء نهائي لخيار الحرب من أجل الحصول على حقوق المسلمين، أو الدفاع عن الإسلام في مواجهة الشرك، بل كان صلحا مؤقتا ظرفيا لحاجة محددة كما هو معروف، وهي السماح للمسلمين بدخول مكة وإقامة العمرة.
الناحية الخامسة المرتبطة بالسابقة أن المسلمين في الحديبية لم يقدموا تنازلا من أي طبيعة كانت، ما عدا رد من هرب من قريش إليهم، وتلك كانت حبة مرة ابتلعها المسلمون على مضض. بينما جميع الدول التي قامت بالتطبيع تنازلت عن حق شعوبها ـ هي ـ في المطالبة بفلسطين، وفوق ذلك تنازلت باسم الفلسطينيين عن المطالبة بفلسطين، لكي يتبين لنا ـ وليت علماءنا الأجلاء ينظرون إلى هذه النكتة كما يقال ـ أن السلام حتى وإن كان شرعيا فقد جر باطلا، ومعلوم أنه لا ضرر ولا ضرار، ولا يمكن جلب مصلحة تجر مضرة، وهي هنا تجريد الفلسطينيين من حقوقهم التاريخية ومصادرة هذه الحقوق والتواطؤ مع العدو الإسرائيلي على التخلي عنها. وهذا قمة الظلم.
الناحية السادسة أن المسلمين عندما توجهوا ناحية مكة للعمرة، بعد الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، كانوا مستعدين لأي شيء، وعلى رأس ذلك القتال، حتى وهم جاؤوا مسالمين لا يحملون سلاحا بل فقط لأداء العمرة، وقد قال سهل بن حنيف رضي الله عنه “لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالا لقاتلنا”. فهؤلاء كانوا من العرب وكانوا من قريش ويعرفون ظلم مشركيها، وعانوا منهم الكثير، وسرقت حوائجهم ومنازلهم، ومنهم من تعرض للتعذيب، ومن قتل قريب له أمام عينيه، لذلك كانوا يتوقعون الغدر.
الناحية السابعة أن المسلمين في الحديبية صنعوا سلاما مؤقتا تحت الاضطرار لدخول مكة فقط، أي لغاية محددة، وكانوا يعملون لبناء الدولة وامتلاك القوة، فهل نستعد نحن لامتلاك القوة وبناء دول قوية استعدادا لما هو قادم؟ أم أن السلام الذي نريده هو السلام النهائي الذي يعقبه الركوع والإخصاء؟.
ثم الناحية الثامنة وهي أن المسلمين عندما وقعوا صلح الحديبية كانوا في موقع قوة، بدلالة الناحية السادسة أعلاه. فقد خاضوا معارك شرسة مع المشركين والكفار انتصروا في بعضها وهزموا في بعضها، مثل بدر الكبرى وأحد والخندق والأحزاب وبني قريضة وبني المصطلق، وسيروا السرايا والبعوث، وبالتالي كانوا لاعبين أقوياء في “الساحة الدولية” إن شئنا هذا التعبير، وهو صحيح. فهل نحن العرب والمسلمين اليوم لاعبون أقوياء في “الساحة الدولية” إن شئنا هذا التعبير، وهو صحيح؟ وهل ربحنا حربا واحدة صغيرة مع أمريكا أو إسرائيل أو غيرها من الدول الغربية؟ أليست حروبنا كلها هزائم وفساد وأسلحة قديمة ورشوة وهواتف وخطب نارية في التلفزيون؟؟ فلم تعتدون على جيل الصحابة وتنقلون أنفسكم إليهم وتتمثلون بهم؟.
الناحية التاسعة أن صلح الحديبية حصل في مرحلة الحرب بين الطرفين، فكان هدنة بينهما، ومما جاء في نصه “ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى رسول الله من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله لم يردوه عليه”. فصلح الحديبية كان مرحلة بين حربين، لا مرحلة بين هزائم كما هو حالنا اليوم.
الناحية العاشرة أن المسلمين كانوا مستعدين للحرب في حال خرق المعاهدة من الجانب الآخر، وهو ما حصل فعلا وأدى إلى فتح مكة، بعد أن خرقت قريش الصلح، فكان عام الفتح وزحف المسلمون على مكة وكانت آخر مراحل الصراع التاريخي بين المسلمين والمشركين. فهل نحن مستعدون للحرب اليوم في حال خرقت إسرائيل المعاهدات؟ وكم من مرة خرقت إسرائيل المعاهدات مع مصر والأردن في العقود الماضية دون أن يكون هناك قتال؟.
أخيرا، يصر هؤلاء الفقهاء والمتفيقهون ـ مثل صاحبنا ذاك الذي عاش بيننا وأكل من أفضال ملوكنا وذهب ليمدح غيرنا ناكرا للنعمة ـ يقولون قولا عجيبا، وهي أن قضية السلام والتطبيع والحرب بيد ولي الأمر. وهذا لا خلاف فيه إطلاقا، ونحن على قول النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة حكامنا ومحبتهم والاقتداء بهم وعدم الخروج عليهم لأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ولكن ولاية الولي ليست شيكا على بياض ولا تفويضا مفتوحا إلى ما لا نهاية. فقول هؤلاء مردود، لسببين: أولا لأن ولي الأمر ليس له حق التصرف في مقدرات الأمة كما يريد بيعا وشراء ورهنا، وثانيا لأن ولي الأمر يتخذ القرار بعد مشورة أهل الرأي وتنفيذا لرأي الغالبية، فهو يتخذ القرار ولا يصنعه، بلغة اليوم. وإذا شئنا الاستدلال بما حصل في الحديبية فإن لنا في اعتراض عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصلح لدليلا، فقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري عن الزهري، وهو حديث طويل:”… فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقّا، قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟، قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به”، بقية الحديث.
فنحن نلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اعترض على النبي في صلح الحديبية، والنبي آنذاك مزدوج الطبيعة، نبي ورئيس دولة، أي “ولي الأمر”. ولكننا لا يجب أن نستفيد من هذا الحديث مجرد الاعتراض، بل يجب أن نستفيد أن ولي الأمر يشرح فكرته ليقنع الطرف الممتنع، وبعد ذلك ينصاع هذا الأخير لولي الأمر. فعمر لم يعترض عصيانا، بل اعترض غيرة على الإسلام لأنه فوجئ بالقرار، فجمع بين النبوة وولاية الأمر، واعتقد أن النبوة كافية، ولكن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم يورينا أن القضايا السياسية تحسم بأساليب سياسية غير نبوية، وهذا حديث آخر.