اللغة ومنطق التاريخ: سؤال الصراع اللغوي بالمغرب
هوية بريس – عزيز المحساني
لعل الناظر في أحوال الأمم والحضارات التي قامت قومتها، واتسعت رقعتها، وجعلت لنفسها بين أمم الأرض الراقية مكانا ومنزلا، وتأثيرا وموقعا، أنها تجري وفق سنن التاريخ، وتساير جريانه، وتحتكم لمنطقه، وتسخر ما أوتيته من طاقاتها البشرية والمادية؛ لخدمة قضاياها وتطلعات شعوبها، والتمكين لثقافتها وقيمها. وسط الأقوياء تدافعا والخصوم تزاحما بالأيدي والمناكب.
وقد عَقِلَتْ هذه الأمم منطق التاريخ، وسخرته لخدمة مشاريعها. ولعل أس قوتها وهيمنتها هو لغتها. ولم تنظر لها يوما بمنظار المتخاذل المهزوم، ولا بمنطق المشكك المرتاب. ولعل أغلب لغات هذه الأمم على ما فيها من عسر في التعلم، وعائق في الرسم والكتابة، وفقر في تراث وثقافة لغتها المكتوبة؛ ما إنه لا تقارن به مع اللغة العربية، بل بعضها خلقت خلقا، وبعثت بعثا، من لغة مرسومة مكتوبة قورنت ومثلت بشبيهاتها من أسرتها اللغوية، أو جمعت من لهجات قبلية ومناطقية، وجعلها أبناؤها وحدة لغوية لما بينها من تقارب صوتي، وتجانس تركيبي، وتفاوت معجمي ودلالي. لكن، هي إرادة الحياة والوجود، حينما تريد؛ يكون بها المراد.
وكثيرة منها من قهرت حتمية التاريخ، وعدمية التفكير، وعائق الاختلاف؛ وصنعت ما أرادت، وكلها شرف وفخر أن تقود معركتها الحضارية والهوياتية وسط تيار العولمة الجارف، ومخططات الأعداء والمرجفين في سراديب الظلام، ودهاليز الضلال، متآمرين على قومهم، ومستنصرين بعدوهم عليهم.
لكن سذاجا جهالا لسنن التاريخ ومنطقه، حاججوا بمنطقهم الأعوج الأعرج، ونظرهم الأشل الأفل في دفاعهم عن عاميات ميتة، ولغات محلية محصورة لا يكاد صاحبها يتواصل مع ابن جنسه في قبيلة تجاوره إلا بلغة ثالثة، يعارك لغة/ أمة ويتهمها بالعقم والموت والعجز، وينسب لمن يدعيها ويتولاها من القدرات والمعجزات لو قيست بواحدة من لغات العالم الكبرى لتقدمتها. ويا ليتها كانت كذلك، لكفتنا شر ما نعانيه من سطوة لغات المحتل وتغولها، ترغيبا وترهيبا في حياتنا، بل تضييقا للسبل علينا في مؤسساتنا العامة والخاصة، وإجهازا على المساحة الضيقة الباقية من حريتنا في تعلم وتعليم لغتنا، على ضيقه وتزاحمه بالأضرار والضرائر. لكن أن تمد يدها له، وتتحالف معه؛ لتضعف أختها الشقيقة، فتلك طعنة نجلاء ممن كان يظن به الوفاء.
ولكن الداهية الدهماء والجائحة البكماء، أن يصدر المسيح المحتل الدجال في غير زمان بعثه، ولا بين من سيكونون قومه وشيعته. فينفث سمه في رحى الطعان، وخذلان الأهل والخلان، ويسعر حربا، ويبيت غدرا؛ فتخرج علينا ثلة من شيعته، وزمرة من بطانته، بدعوى غريبة عجيبة، أن العامية أو الدراجة، ستكون لغة العلم والمعرفة، والاقتصاد والسياسة، والسلم والحرب، والطريق إلى مواكب ومراكب الأمم العظيمة. والأمر ببساطته المخلة، وسهولته الممجوجة، يحتاج إلى كلمات محدودة يلقنها الأطفال، فتعمل عمل عصا موسى في البحر، لكنها حبال سراب، يحسبها الرائي ثعابين، وما هي إلا حبال، لكن سمها عطب في الأنياب.
وحال أدعياء الفرنسية وحلفائهم من أنصار العاميات في عالمنا العربي الإسلامي ووطننا العزيز، حال النملة مع الفيل، والبقة مع البرميل، فما النملة بقاهرة الفيل، ولا البقة بشاربة البرميل، فاروا عطشكم من ماء البحر، واسمعوا الحكاية من شهريار لشهرزاد عن ” الذبابة والنخلة” قال: كان يا ما كان، حتى كانت العوراء تخيط الكتان، والعرجاء تقفز على الحيطان، والبكماء تغني للطُرشان، والطرشاء تسمع ما يحكى في الوديان، سَمِعتُ بعد الصلاة والسلام على سيدنا العدنان، أنه كان يحكى يا سادة يا كرام من قصص خطتها الرمال، وجرت بها الركبان من لسان على لسان: أن ذبابة حطتْ على نخلة، ولما أرادت الانصراف، قالت لها : يا نخلة تماسكي فإني راحلة ! فقالت لها النخلة : ويحك يا هذه، فوالله ما شعرت بك حين نزلت، فكيف بك إن رحلت”، والعهدة على الراوي فيما سيقع فيما بعد.
وما هي بالسهولة أن تحُل لغة المحتل محل اللغة الشريفة الكريمة العربية، لغة القرآن، ولسان حضارته. وإن استغلت غفلة أهلها، وضعف المدافعين عنها، أمام ما جُنّد في الخارج والداخل، واستعمل من خفي الأسباب وظاهرها، فلا هي ولا من يحالفها يستطيع أن يحل محلها. لأن العربية لغة تجر خلفها حضارة وثقافة حية النسغ، وجودها من نسغ رباني المصدر، اقتات قلوب رجال من فرسان القلم والبيان، والعقل والبرهان، والجدل والحجاج، ـ كل فكرة عاشت إلا اقتات قلب إنسان ـ ما أغرهم عن لغة دينهم انتماؤهم الطيني أن يتعصبوا للغاتهم، وهي ما هي عليه من النضج والكمال والحضارة، فكتبوا وأبدعوا بها، بل فاقوا نظراءهم العرب في ذلك، ولسان حالهم ومقالهم، مقالة الإمام الزمخشري في تقديمه في كتابه المفصل في النحو حيث قال: الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعربية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين،، والمَشْقَ بأسنة الطاعنين (…) ولعل الذين يغضون من العربية ويضعون من مقدارها ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من منارها، حيث لم يجعل خيرة رسله وخير كتبه في عجم خلقه ولكن في عربه، لا يبعدون عن الشعوبية منابذة للحق الأبلج، وزيغا عن سوء المنهج، والذي يقضي منه العجب حال هؤلاء في قلة إنصافهم، وفرط جورهم واعتسافهم، وذلك أنهم لا يجدون علما من العلوم الإسلامية…إلا وافتقارهم إلى العربية بيِّن لا يدفع، ومكشوف لا يُتقنع.
فاعلم رعاك الله، وسددك لخدمة دينه وعقيدته، ورعاك الدفاع عن لغة كتابه، أن ما أُخذ اليوم حيلة ومكرا، يعاد غدا قوة وحقا، فلن يطول حتى تنكشف خيوط المؤامرة. وإذاك يقال لمن يريد أن يطاول العربية بعصي من خشب، أو أن يناطح قمتها بقرون من طين / طحين، قول الشاعر:
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه اشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
وأنت أيتها الشريفة الكريمة، اختالي مزهوة، واسرحي وامرحي، وفاخري القريب والبعيد والعاشق والحاقد، فقد أخذت علي مجامعي كلها، وملأت علي جوانحي جلها، فما عدت أرى إلا سواك، فكنت أنت أنا، وأنا أنت، تجرين مني مجرى الدم، وتقتاتين من قلبي وروحي شهده ولبه، أغض الطرف على النظر لغيرك، غيرة من نفسي على نفسي، نفسي العاشقة على نفسي اللاهية المتطلعة. وما أَلَقِي بك عصبية ولا حمية من أُخذ بعزة الإثم، وأنتِ أنتِ بما عليه من جمال وجلال، وبلاغة وبيان، وفصاحة قول ولسان، ولكن لأنك لسان قرآنِي، فما اخترت عن عبث، وما اصطفيت عن جهل؛ وحاشاه أن يفعل في كونه أمرا لا يعلم سبحانه رشده، وسداده لخلقه. فما بالك بلغة قرآن فيه هدايتهم، وصواب ديانتهم، وإقامة حجة رسالته، ودفع دعاوى ضلالهم وغوايتهم، وعتق رقابهم، وقد جعل إعجازه في بيانه، فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
أوجزت فأبدعت.
94: أربع وتسعون
94:quatre vinght quatorze
أي أربع عشرين وأربع عشر
قولوا لي بالله عليكم هل هذه لغة علم أم لغة خشيبات