المؤثرون المسلمون والمنابر الإلكترونية.. مُعترك العصر
هوية بريس – عبد المنعم أديب
مع دخول عصر “وسائل التواصل الاجتماعي”، واكتساحه العالَم أجمع؛ بدأت الكثير من معالم الدعوة الإسلامية، وحركات الوعي الإسلاميّ تتغيَّر؛ تأثُّرًا بهذا العصر التواصلي وتماهيًا مع آليَّاته التي فرضها فرضًا على الكافَّة. ومن هذه التمظهُرات التي استجدَّتْ هذه الظاهرة التي سأعرض لها هنا، وسمَّيتها بالمنابر الإلكترونية، أقصد بذلك الإشارة إلى المنبر الحقيقيّ في المسجد.
ما هي ظاهرة المنابر الإلكترونية؟
أقصد هنا بظاهرة المنابر الإلكترونية تلك النشاطات الإسلامية من الحسابات والقنوات التي ظهرت بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ سواءً الدعوية أو الثقافية أو العلمية. ولا أقصد بالمنابر الإلكترونيَّة الحسابات والقنوات العامة (كحسابات الأزهر، والهيئات الشرعية المعروفة) التي تتبع المؤسسات، فهذا أمر طبيعيّ لا يدخل في نطاق الحديث هنا؛ لسبب واضح: أنَّ هذه الحسابات والقنوات العامة هي انتقال من مظهر النشر الورقيّ والتلفازي إلى مظهر إلكترونيّ، أيْ أنها ليست نشاطات جديدة، بل أحدثت نقلة في وسيط النشر فحسب.
على خلاف ما قصدته بالمنابر الإلكترونية؛ التي هي منصات الأفراد بأعيانهم والمؤسسات الصغيرة أو متناهية الصغر التي يمكن تصنيفها تحت قائمة النشاط الفرديّ لا الجماعيّ. وهي نشاطات ما كانت موجودة من قبل، بل هي الوافدة الجديدة على مُعطيات الثقافة الإسلامية المعاصرة، تلتزم وتستوطن وسائل التواصل الاجتماعي (التي هي نفسها مواقع بالغة الضخامة كفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وانستجرام، وتيليجرام، سناب شات، وغيرها).
وتشمل هذه المنابر فئات مُتباينة. أهمها:
● المُؤثِّرون المسلمون: وهؤلاء أشخاص من المشاهير في النشاط الإسلاميّ، قد اختاروا التقليد لظاهرة المُؤثِّرون (influencers) على وسائل التواصل الاجتماعي. وهؤلاء الأخيرون الأكثر انجرافًا وراء تلك النشاطات التي نراها على الفضاء العام، والتي في غالبها مباينة للفكرة الإسلامية، وللقيم الإسلامية، وأقرب ما تكون -بل هي بالفعل- تستنسخ ظاهرة “المُؤثِّرون” في الغرب، وتتبع منهجيَّتهم القِيَميَّة. ثم أتت هذه الطائفة من الناشطين في العمل الإسلامي، واتبعت طريق المؤثرين -الذين تأثروا بالغرب كما سبق-، وصاروا يفعلون أفعالًا تلتزم حدَّ الشُّهرة والظهور؛ فيهتمون بلباسهم ومظهرهم العام، ومكان التصوير -إن كان تصويرًا-، وينشرون الكثير من الصور والتفاعلات المظهرية فحسب. فإذا وصفتهم على وجه الحقيقة فوصفهم أنهم “نجوم مجتمع”، لا ناشطون في العمل الإسلامي. ومن هذه الفئة مَن كان نشيطًا قبل دخول عصر التواصل الاجتماعي، فغيَّر الوسيط الواقعيّ إلى الوسيط الإلكترونيّ وحسب، ومنهم من نجح في استغلال معطيات هذا العصر للظهور من حال العدم. وهُم -بين فئات ظاهرة المنابر الإلكترونية- الأقل عُمقًا، والأزهد في مجال النفع الحقيقيّ، وإنْ كانوا الأعلى صوتًا، والأكثر من حيث أعداد المتابعين.
● المنابر الشخصيَّة: وهؤلاء أشخاص بأعيانهم، يخروجون على الجمهور من حسابات شخصيَّة (صفحات أصلية أو حسابات عامة بأسمائهم)؛ تحمل اسمهم الحقيقيّ أو اسمًا تعبيريًّا أو لقبًا. وهم الأكثر جديَّةً، بل هُم الجادُّون، المُريدون النفع، وليست إرادة النفع أو الجديَّة تعنيانِ الانضباط أو الصحَّة؛ فهذا شيء، وذاك آخر. وكأنهم بالفعل على حالتهم هذه؛ قد أسَّس كلٌّ منهم منبرًا (كالمنبر الحقيقيّ في المساجد)، وأخذ يخاطب الجمهور من خلاله. وبعض هؤلاء يهتمون بالدعوة بشكل صريح، وبعضهم يهتم بالعلوم الإسلامية على اختلافها وتنوعها، وبعضهم يركز على منظومة علمية بعينها (كالتاريخ مثلًا أو الفقه أو العقيدة)، وبعضهم يزاول بين جميع ألوان الثقافة الإسلامية.
● المنابر الصغيرة ومُتناهية الصغر: وهذه تشبه السابقة، لكنها تتمظهر في مظهر الجهة أو الجماعة أو الطائفة؛ لا مظهر الشخص كسابقتها. مثل: منبر أهل السُّنَّة، عشق الكُتُب، شئون الإسلام (هذه الأسماء ليست على وجه الحقيقة، بل على وجه المُشابهة لنمط الأسماء فحسب)، وشيء من هذا القبيل. وقد يكون المسئول عنها واحدًا أو أكثر يباشرون نشاط منبرهم.
أهمية ظاهرة المنابر الإلكترونية
قد يبدو للقارئ أن هذه الظاهرة شأن طبيعي، وأمر هيِّن. وفي الحقيقة فإن لهذه الظاهرة أهمية عظمى في الوضع التوعويّ الإسلاميّ الحاليّ. وتكتسب أهميتها في عنصر “مُباشرتها للجمهور العام”. فهذه الفئات من المؤثرين المسلمين صارت هي التي تباشر المسلم المعاصر -وغير المسلم- في يومه وليلته، صارت هي وسيلته لرؤية الأمور، ونقل الأحداث، وهي أسرع المُشكِّلات لوعيه تجاه ما يجري. وما ذلك إلا لأنها أوَّل ما يلجأ إليه، وما تُسارع عينه إلى إبصاره. كما أنها مُصاحبة له، مُلازمة موجودة في الوقت الذي يختاره هو أن يراها. كما أن جميع القضايا تُطرح عليها، بما في ذلك القضايا التي لا يصح طرحها على المنابر الحقيقيَّة -لحرج سياسي أو اجتماعي أو غيره-، ويشارك فيها الجميع؛ مما يجعلها وكأنها مؤتمر دائم الانعقاد، به حرية أن تطرح، وأن ترد على طرح الغير. ولعلَّ هذا يشير إلى افتقار الواقع الحقيقيّ إلى المُمارسة الفاعلة التي لا يجدها المُشارك إلا على الفضاء!
ومن طغيان هذه الظاهرة أنْ صارتْ مَطمَع الجميع؛ حتى أصحاب المنابر الواقعية صاروا يطمعون في الحصول على نصيب في العالم الافتراضيّ؛ فلا يكتفون بمكانهم في الدرس العلمي، أو النشاط العلمي الواقعي، أو البرنامج التلفازي؛ بل يزاحمون السابقين عليهم إلى مواقع التواصل، ينشئون حسابات وقنوات؛ ليظهروا فوق ظهورهم الواقعي الأساس. وما ذلك إلا لما رأوه من التأثير البالغ لهذه الظاهرة في الجمهور، لدرجة هوَّنتْ أمامهم مُشاركتهم الأساس التي يؤدونها.
أسباب انتشار ظاهرة المنابر الإلكترونية
تتعدد الأسباب العامة والخاصة في انتشار هذه الظاهرة. ويمكن أن أجمل الأسباب -بغضّ النظر عن تصنيفها- في الآتي:
● فرضٌ فرضَه العصر الإلكترونيّ المُعاش الآن؛ وهذا التغيُّر الذي يُسميه البعض حكم العصر حدث ويحدث وسيحدث، فهو ليس بالأمر الجديد، يجري على الأحياء فيُحيل سلوكهم.
● الاستبداد المفروض على الواقع الدَّعَويّ، أو الدعوة في أرض الواقع. من تضييق على الخُطُب والدروس في المساجد، والحد من الأنشطة الدَّعويَّة في محافل المجتمع، والتضييق على دور النشر التي تنشر المؤلفات الإسلامية -خاصةً المتعلقة بالوعي الجمعي الإسلامي، وقضايا الأمة-. كل هذه الوسائل وغيرها؛ أدَّى التضييق عليها إلى الرغبة في إيجاد ساحة أخرى للدعوة والثقافة الإسلامية.
● التضييقُ في الإعلام التلفازيّ والفضائيّ في نقل الأخبار، والانتقائيةُ في هذا النقل؛ بما في ذلك التضييق على أخبار المسلمين في العالَم لمصالح سياسية مُؤقتة، أو التضييق في نقل بعض الأخبار التي لا تدعم الرؤية العامة للذين يتولون أمر الإعلام التلفازي والفضائي.
● محدوديَّة الأماكن الحقيقية الواقعية في الدعوة والعلم. فكم من شخص لم يستطع اللحاق بأي من هذه الفرص الواقعية في مجالي الدعوة والعلم! فلم يجد أمامه إلا اللجوء لهذا الواقع الافتراضي، والمنصات الإلكترونيَّة. وكم من شخص سُرقت فرصته في الواقع؛ فهرب إلى العالم الافتراضي يشق طريقًا!
● تلبية الرغبات الشخصية لأصحاب هذه المنصات؛ فمنهم من هو حماسيٌّ يغار على دينه وأحوال أمته؛ فيُدشِّن هذا النشاط الذي يستطيعه، ثم يستطيع من خلاله أن يجذب المتابعين ويكبر؛ ليصير منبرًا إلكترونيًّا ضخمًا. ومنهم من يريد الظهور بين الناس لهدف الظهور نفسه، وجلب أكبر عدد من التفاعُل. ومنهم الصادق في علمه ودعوته الممتلك لأدواته الذي يريد النفع العام لا يعبأ بزيادة التفاعل ولا نقصانه، إنما يعبأ بتصدير ما يريد.
● إسهامات الدعاة والعلماء والناشطين المسلمين من أهل المَهجَر؛ فهناك آلاف منهم يقطنون أراضي الحضارة الغربية، وغيرها. هؤلاء -بحُكم الضرورة- لا يجدون متنفسًا للإسهام في العمل والحراك الإسلامي؛ وبحُكم الضرورة لا يجدون سوى هذه المنابر الإلكترونية للشخوص من خلالها، وأداء أدوارهم التي يريدون أداءها.
● مَورد للكسب، ونشاط ذو ربح. وهو هنا لا يختلف عن اكتساب الرزق من وسائل التواصل في الوسط العام. ويكون الكسب عن طريق المشاهدات، والإعلانات، والشراكات، والدعايات للكتب ومراجعاتها من دُور النشر أو الكُتَّاب أنفسهم، أو لجهات معينة يكونون لسانًا ناطقًا لها، أو يشيرون إليها ليثق الجمهور فيها. والكثير من موارد الكسب الأخرى.
إيجابيات ظاهرة المنابر الإلكترونية
● سدَّتْ فراغًا ناقصًا من العمل المؤسسي؛ فجهود الأزهر والجهات الرسمية المماثلة له في بقية العالم محدودة رغم اتساعها، وستظل محدودة مهما اتسعت؛ لأن القاعدة الجماهيرية أوسع وأضخم. فجاءت هذه الظاهرة من المنابر الإسلامية الجزئية الفردية لتسدَّ نقصًا في الجسد التوعوي الإسلامي؛ ما كانت لتسده غيرها. وليس على سبيل كَمّ الدُّعاة فحسب؛ بل على سبيل الكيفيَّة الزمانيَّة والمكانيَّة أيضًا. فالدروس والخطب لها مواعيد يحضرها المستطيع في أوانها، والبعض منها كان يُسجَّل على شرائط. أما الآن فالدرس أو التدوينة أو الخطبة أو…، بات ميعادها متى فتح الواحد من الجمهور التطبيق الذي يريد، دون تقيُّد؛ فصارت هي التي تنتظر الجمهور، لا الجمهور ينتظرها. ولا شكَّ أن هذا سدَّ نقصًا شديدًا في نطاقه.
● احتوت قدرات القادرين والمُقدِمِين على تقديم هذه الأعمال. فالله قد وهب الكثير العلم والدعوة وطريقة الإرشاد، لكنَّ كثيرًا لم يكن يجد الفرصة السانحة لهذا. ولعلَّ هذه من أعظم إيجابيات هذه المنابر الإلكترونية.
● بثَّتْ رُوحًا جديدة في الجسد الدعويّ والثقافيّ الإسلاميّ. ومع كل عصر به الجديد، يحاول المسلمون المخلصون أن يواكبوا هذا العصر، ويُقولِبوا مادتهم في القالب الجديد.
● وازنَتْ كفَّة الممارسات قليلة الأهمية التي تملأ هذه المواقع التواصليَّة. وما زال هذا الميدان به الكثير من الفُرص؛ فكَمُّ المحتوى التافه -بل الساقط الهازل الهادم- أضخم من أي محتوى هادف سليم مُحترِم للإنسان وعقله. هذا الوضع في العالم كله، ليس خاصًّا بالعالَم الإسلامي.
● وسَّعت التضييق الذي أصاب الدعاة الواقعيين في الممارسة الواقعية. وبذلك فتحت طاقة أمل للدعاة وللجمهور في استمرار هذه الممارسات الدعوية رغم التضييق.
● ساهمت بنشر المعرفة عن العلوم والكتب، وعن قضايا الأمة، وماضيها وحاضرها، ونبهت على قضايا المستقبل.
سلبيات ظاهرة المنابر الإلكترونية
● تعاظُم دور الجمهور بشكل غير مسبوق. في السابق كان الكاتب بينه وبين الجمهور ستار؛ لأنه يكتب وحده في مكتبه، ليس أمامه إلا الورقة والقلم. وصحيح أن الكاتب ذا الشعبيَّة كان يخشى جمهوره، وردَّة فعله، فيصير الجمهور قيدًا عليه؛ حيث أراد المكانة والمكان. لكن الموقف الآن غير الموقف في الماضي؛ فلا حائل بين مَن يكتب وبين جمهوره. وقد كان الداعي يلقي الخطبة؛ فتَحُولُ بينه وبين الجمهور هيبةُ الموقف وهيبة المكان (في الغالب المسجد)؛ أما الآن قد صار هذا سرابًا، وصار الجانبانِ كأنهما يقفانِ مُتقابلينِ، وبينهما زجاج الشاشة المُضيء.
وهنا نصل إلى حال من حالات السلطوية المتبادلة بين المُؤثِّر وصاحب المنبر (الذي يملك حق التعبير الأول، وتشكيل المواقف بما يقوله للجمهور)، وبين الجمهور (الذي يمتلك حق الردَّ؛ الذي قد يكون هادئًا، وقد يكون عنيفًا؛ وقد يكون عقلانيًّا، وقد يكون هوجائيًّا؛ وقد يكون مُهذَّبًا، وقد يكون غير مُهذب). فإنْ كان الجمهور عبئًا بعيدًا في الماضي؛ فقد صار عبئًا قريبًا في الحاضر، وإن كان الجمهور أقصى ما كان يفعله أن يرسل للجريدة خطابًا به تعليق على المقال أو المكتوب؛ فقد صار أمام الكاتب أو المُدوِّن يرجمه بالحجارة متى شاء بالحق أو بالباطل. ولعلَّ هذا يفرض على الكاتب أو المُدوِّن أن يقول للجمهور ما يريد، لا يما يجب عليه أن يقول؛ مخافة ردَّة فعل، أو خسران أتباع. ولعل هذا العنصر يشكِّل طورًا جديدًا من أطوار في المشهد التوعويّ الإسلاميّ.
● تفتيت المشهد الإسلاميّ: فبعد أن كانت المركزية هي الأصل والأساس في العمل الثقافي والمعرفي والدعوي الإسلامي؛ صارت اللامركزية هي المسيطرة على المشهد. كان الأزهر مأذنة واحدة تُعلِّم الناس وتدعوهم، ثم صار هناك ألف أزهر وأزهر. وعالم التواصل الإلكتروني واسع أشدّ الاتساع؛ واسع إلى الحد الذي قد يكون لدى المنبر ملايين المتابعين وليس معروفًا خارج دائرتهم، وفي كثير من الأحيان داخل دائرتهم (حيث تكون مجرد متابعة جوفاء بلا إرادة في المتابعة الحقيقية). وقديمًا كان العالم أو الداعية يظهر على التلفاز فيعرفه أكثر الناس؛ بسبب “مركزيَّة مَنصَّة التلقي”. أما الآن فتفتت المشهد بشدة، وصرنا كأننا في جزر منعزلة، كل مجموعة من القوم لهم داعيهم الخاص.
● الفوضى المعرفية، وأن كل شخص يعمل بغضِّ النظر عن مؤهله (أقصد هنا مُؤهِّله العلمي الحقيقيّ لا مجرد الشهادة؛ فكثير من أصحاب الاختصاص لم يغنِ عنهم اختصاصُهم شيئًا)، كما أن كلَّ مُؤثِّر ومنبر يعمل ولا رقيب عليه، فالجمهور ليس رقيبًا؛ بل السلطة هي التي تقوم بدور الرقيب، ولا مُصحِّح له، فالجمهور ليس جهة تصحيح، بل الخبير هو جهة التصحيح. ومن مظاهر الفوضى هي حالة الشعبيَّة (الشعبويَّة) في تقديم العلم وفي تلقيه؛ التي تنشأ عن هذه الظاهرة.
● المعرفة الجزئية المُشخصَنَة؛ حيث يقدم كل صاحب قناة أو حساب العلمَ أو الفكرَ حسب منظوره هو. وليس منظور الشخص في كل الأحيان صحيحًا؛ فتتسرَّب من خلال هذه المُمارسات العلمية والدعوية علومٌ مبتورةٌ جزئيةٌ مطبوعةٌ بطابع الشخص المُقدِّم. وهذه النوعية من المعرفة ليست بالضرورة ضارَّة، لكنَّ ضررها الحقيقيّ أنها لا تراعي تقديم المنظور الأشمل الذي به تكون المعرفة الصحيحة “الكاملة”، وبه يكون الفكر “الهادئ” المتزن الذي لا ينظر للآخرين (وهؤلاء الآخرون ليسوا الأعداء؛ إنما هُم منَّا، لكنهم مخالفون لصاحب المنبر فحسب) على أنهم مختلون عقلًا ونفسًا، أو أنهم أعداء للدين خائنون له، أو.. أو… دون تحقق وتدبر. وفي الغالب نقف للتحقيق؛ فنجد أنهم مخالفون لصاحب المنبر شخصيًّا أو فكريًّا، لا أعداء كما وجَّه، ولا مُرتابين كما شكَّك.
● الممارسات الشاغلة للمسلم عن هدفه الحقيقي؛ مثل صناعة “المعارك الوهمية” بين بعض أصحاب المنابر بعضهم بعضًا. ويهوِّل كل واحد منهم في الأمر، ويُعلي أصوات الصراخ حتى يظنّ المُتلقي أنها معركة حقيقية يجب أن يلتفت إليها. ومثل الاهتمام بمواد تافهة (كتب، أو موضوعات، أو غيرهما) لا تستحق الاهتمام، بل صناعة حالة من “النجوميَّة” لها. وكل هذا بسبب غياب الرقيب والخبير عن هذه النشاطات.
بعض التقويمات لظاهرة المنابر الإلكترونية
يُرى صاحب المنبر الإلكتروني قدوةً في تصرفاته؛ لا في أقواله فقط. فهو مَن عرَّض نفسه لهذه الحال من الاقتداء؛ حينما قرَّر توجيه الخطاب الإسلامي للكافَّة. وهذا التوجيه قوَّم حاله؛ فلم تعد حالًا عموميَّة، بل صارت على نمطٍ وذاتَ هيئةٍ. وعلى فهم هذه المقدمة؛ يجب على صاحب المنبر أن يراعي هذه الحالة الاقتدائية في كل ما يوجهه للكافة.
● عدم الاغترار بالإعجابات والتفاعلات. وهنا يجب العلم أن فتنةً من أعظم الفتن للإنسان هو التعرُّض للإعجاب من الناس، وكم من رجل وَرِع تقيّ هلك إثر هذه الفتنة! وبالقطع كذا فتنة تحول النشاط إلى نشاط تجاري. بل يجب أن يكون الهدف أمامهم واضحًا. فهُم لا يعبدون الإعجابات، ولا يُقدسون الأموال، ولا يسجدون أمام الشهرة. بل هُم عباد لله وحده لا شريك له. وإذا كانوا على غير هذه الحال المستقيمة؛ فإن الناس تنظر إليهم على هذه الحال المستقيمة؛ فعليهم ألا يخونوا هذه الأمانة (فإن هذه النظرة بالثقة أمانة في عُرف الشارع، وأداؤها أداء للأمانة).
● تحرِّي ما يُصدَّر للجمهور، والتأكد منه قبل عرضه على الناس؛ بالرجوع إلى المصادر الموثوقة، وسؤال أهل العلم والخبرة، بل الأَوْلَى إنشاء جهة صغيرة من شخص أو أكثر لتكون جهة استشارة وإرشاد؛ فيخرج العمل جديرًا بالعرض أمام الجمهور. وليعلمْ صاحب المنبر أن المحتوى الخاطئ سيُسأل عنه أمام الله، ولا سبيل لدفع السؤال بالجهالة (أيْ بأن صاحب المنبر جَهِلَ خطأ هذا الأمر).
● الاهتمام باللغة الفصحى والالتزام بها. ولأصحاب المنابر هنا دور ضخم، أضخم من أية جهة أخرى. حيث هم الملاصقون للناس، المُباشرون لهم في ليلهم ونهارهم، والفرصة على يديهم في تنمية رقعة استخدام الفصحى أكبر من أية فرصة أخرى. فهي أكبر من فرصة حفظ الطالب واضطراره لأداء امتحان ما؛ فهنا حياة حقيقية، وحالة متحركة مُشكِّلة للغة الجمهور. وهذا من أوجب الواجبات عليهم.
(المصدر: موقع السبيل).