المتحوِّلون أو عُبّاد الله على حرف السرّاء
هوية بريس – محمد بوقنطار
لا أزال كلّما دلفت إلى الكلام عن هؤلاء المتحوّلين والمتحوّلات، لا أستطيع، بل لا تستطيع ذاكرتي أن تتجاوز استحضارواقعة تلك السيدة المصرية التي غرّدت على حسابها الشخصي في استغراب طافح، وذهول ناضح قائلة: “كنت أتحدث عبر الإنترنيت مع شخص تعرّفت عليه على أنه داعية ديني ودارس للفقه وعلوم الدين، وكان حديثنا كتابة فقط ولا شيء غير ذلك، وكنت أسأله وأستفسر منه بعض الأمور الخاصة بديننا الحنيف وما إلى ذلك، ثم حصل أن انقطعت فترة كبيرة عن الإنترنيت لأعود وأرى المفاجأة!
وجدت هذا الشخصقد تحوّل إلى النقيض تماما واتجه إلى الإلحاد بل إنه أنشأ موقعا خاصا يتطاول فيه هو ومجموعة من ضعاف النفوس على الذات الإلهية مما صدمني بشدة…فكيف لإنسان كان بمثل هذه”التقوى”وهذا العلم أن يتحوّل إلى النقيض بهذه الطريقة؟؟؟” انتهى كلام السيدة نقلا مني بغير تصرف.
إنه لاستفهام ثقيل الحمولة، غارق في يم الحسرة، مرهون في غم الحسم، مطمور في همِّ الإجابة، ملحاح حد التشغيب والاستفزاز في فزعه على حاجة قصوى، يبغي صاحبها أن يفهم تفاصيل هذه الظاهرة الكنودة، فهما يحفظ لنفسه توازنها، ويعيد لها ثقتها بربها وخالقها وبارئها، فَهْما يضع يمناه على تفسير مقنع لهذا التحوّل الفجائي من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، إنه لتحوّل يبعثر النواميس، ويقلب القواعد، وينقلب على المألوف والمعهود الطبيعي، إذ كيف لمسلم ديِّن أن ينسلخ فجأة عن آيات الله، وأن يخلع عمامة الحياء من الله ثم من الناس، ويطفق نافشا شَعْر الجحود والكنود والإلحاد في صفاقة وتصوّل وتغوّل.
لا شك أنه تحوّل يجعل القلب واقفا على أنامله، إذ كيف للذي أو للتي جعل نفسه، أو جعلت نفسها حتى الأمس القريب في الخطوط المتقدمة ـ فيما يبدو للناس ـ للدفاع عن قضايا الدين وشؤون الأمة الإسلامية، أن يصيروا بين عشية وضحاها من المتمردين على الشرع جملة وتفصيلا، الرافعين من عقيرة المواجهة، الباثين للشبه، القادحين في عرى الإسلام شريعة وشعيرة، المُفخِّمين من شأن الشك، المقزّؤمين من مبدأ التسليم، الغامطين لمنزلة اليقين، المتطاولين على نصوص الوحي في غرر معرفي كظيم، مافتئ أصحابه هؤلاء يدّعون عبر مغادرتهم وانقلابهم على قواعد مستمسكهم حتى الماضي القريب، قلت يدّعون في تقليعات جديدة أنهم غادروا السفاهة نحو العقلانية، وانتقلوا من الفساد والإفساد إلى الصلاح والإصلاح، ومن الظلامية نحو معانقة التنوير والحداثة في انبهار هالك.
ولا غرو أنه انتقالصاحَبه ويُصاحبه عداء وبُغض لمجتمع المسلمين كما الملتزمين بعرى هذا الدين العظيم، تصدق في وضعيتهم الجديدة شهادة الله جل جلاله في جنسهم ونوعهم، إذ قال سبحانه وتعالى: “ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر”
إنه انتقال لم تتم في شأنه محاولات جادة وتأملات عميقة تضع تجلياته على مائدة التشريح، حتى يتسنى أولا فهم هذه الظاهرة المرضية، ووضعها في سياقها المناسباتي، ومن ثم العكوف الصادق المخلص على إيجاد حلول وإجابات مستفيضة، من شأنها أن تُكسب الأجيال المسلمة مناعة قوية تُحصنها من الولوج في أتون فتنتها المردية.
ولا شك أن أي محاولات لتفكيك هذه الظاهرة تأتي موغلة في باب الافتراض النظري، مُطنبة في البحث التجريدي، هي محاولات تبقى وستبقى قاصرةبعيدة من الوصول إلى السقف المطلوب، محرومة من الجواب المرغوب، ذلك أن فهم هذه الظاهرة لا ينفك مقصوده وهدفه عن الاطلاع التفصيلي الدقيق على جوانب ذاتية وملامح من سيرة هؤلاء المتحوِّلين أنفسهم، وخاصة بعض المواقف التي شكلت منعطفا في السيرورة الحياتية للمتحوِّل أو المتحوّلة، باعتبار أن حقيقة هذا التحوّل تبقى كامنة ولا شك في سيرتهم الذاتية وما سجلته بين مطلع البدايات ومقطع المآلات من مواقف وهزات، إنه سبر وغوص يكون الغرض منه الوقوف على ماهية الدوافع التي قادت القوم إلى منطقة “الحرف”وجعلتهم يعبدون من أجلها الله ابتداء، ثم بزوالها حصل التمرد والانقلاب، بَلْه حصل الانسلاخ، وقد قال ربنا جل جلاله مُجَلِّياً كاشفا سبحانه عن هذه الفئة من الناس: “ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين” الحج11.
إن معرفة، أو الوقوف على الخصائص الذاتية التي ساقت هؤلاء لتستوطن أقدامهم في تأرجح، وغير ثباتدركالحرفأو شفا جرفهالهاري،لهو وقوف كفيل بأن يفك “شفرة” هذه الاستحالة وذلك الانسلاخ، وهذا الحرف أو الطرف والشفيرأو الوجه الواحد، أو الشرط الذي يُرْهَن أثرُه مع السرّاء دون الضرّاء، وإنّما راعي سوقه وعصا هشه لا تخرج من جهة الإجمال عن ماهية الإغراق الدنيوي إلا لُماما، فقد تكون طائلة السوق وسطوة الهشِّمتمثلة في حبَّ: ظهور، أو شهرة، أو سلطة، أو مكانة اجتماعية،أو مال، يكون مركوب الراغبين ووسيلة الخاطبينلِودِّه هيالتدثر بمعرفة دينية وتمظهرات شعائرية يطبعها على الغالب استيطان مقصورة القيادة تنزيلا وأداء،أومنافحة ومدافعة،أو مجادلة ومناظرة،أو عويلا وضجيجا، يُعرف أزيزه، ويشتد وطيسه ويتعالى دخانه من على صفيح ساخن لشبكات التواصل الاجتماعي،أومن المنتديات وأسواق وبرامج ومناطقالجدال البزنطي.
كما قد يكون الدافع لهذا الحرف في مقام “اللُّمام” ارتهان المتحوّل ابتداء لقضية التمكين للإسلام وأهله، بل وربط مصيرهما بمصير سطوة فكر معينٍ، أو تغلب جماعة متطرفة “القاعدة وداعش نموذجا”، أو تحقق قومة إسلامية على أساس حزبي، ثم مع خيبة الأمل واضمحلال هذه الأماني وتبخر مشاريعها،يحصل التمرد والانقلاب المُشار إليه آنفا.
دون أن ننسى أو نتناسى ذكر فتنة الابتلاء ودورها في تغذية مقدمات هذا الانسلاخ، خاصة إذا جاء الابتلاء في ثوب ظلم عاصف، أو حلم زائف، أو عدوان نازف،أو سجن حائف، وكثيرا ما تجتمع هذه المعطوفات ليذوق الرجل وبال أمره، فما ظنك برجل حصل له هذا وتعرض لساديته، وقد عُلم أن انتسابه لهذا الدين يخضع لموازين وضوابط الربح والخسارة، وأن الأمر لا يعدوعنده أن يكون صفقة في سوق تحكم أركانه قواعد التجارة والتقارض واستبدال الأدنى بالذي هو خير.
إن التحوّل هاهنا يُعد نتيجة لازمة، وتحصيل حاصل طبيعي راجح الوقوع، من رجل أو سيدة ربط كلاهما الإيمان بعاجل حصول الخير الدنيوي العوضي، فإن كان زرعا فكثرة، وإن كان مالا فزيادة، وإن كان تجارة فرواجا، وإن كان ظهورا فشهرة، وإن كان رياسة فعلوا وتكريسا وإن كان معرفة فتفوقا وتميّزا،وهكذا…
ثم مع كساد البضاعة، وبوار المشروع يحصل الرحيل وتتم المغادرة، متمسلخ بطلها بصفاته الجينية الراغبة دوما وأبدا في استيطان المقدمة، ذات الربح المضمون وشغف الظهور المصون، ولعلها رغباتوأمنيات تُنافي الرحيل في صمت، وإلفٌ يُجافي التواري على استحياء، ولذلك ومنذ الوهلة الأولى يسجل المغادر نفسه في صك القبول، ويقرع المتحوّل الطبول، ويدق المبدِّل الأجراس، خارجا على الناس في زينته الجديدة، معلنا في صفاقة وصلادة وجه مجافاته ومعاداته لانتسابه القديم، ثم ما تفتأ أن تترادف منه الخرجات وتكثرالاستضافات، وتتعاقب الطلبات تعاقب الليل والنهار، وتُفتح في وجهه المنابر، ويتقاذفه الإعلام البئيس من يد إلى أخرى حتى يصير اسمه ورسمه كالنار على العلم، بل يصير أمر توبته أو رجوعه مُضارعا لإمكانية صمود كرة ثلج فوق صفيح تنور لاهب.
في كل خرجة، ومع كل استضافة يخوض المتحوّل مع الخائضين في عِرض الدين، منقلبا متمردا على نصوصه ورموزه، رابطا وجوده ووجودهم بكل رزية ومحنة، وَالِغا من رصيد قد انتهبه من أساطير المستشرقين، ناسبا ما تلصّصه لنفسه في عتوواستكبار، مصوّرا رحيله بكونه ضربة موجعة، وسهما قاتلا في خاصرة المتروك.
وإنّما كان شأن هؤلاء جميعا شأن تلك البعوضة التي وقعت على جذع نخلة، فلما همّت بالرحيل صاحت مخاطبة النخلة محذرة إياها أن تستمسك بنفسها حتى لا يفقدها أثر الرحيل توازنها، فما كان من النخلة إلا أن أجابتها في صدق بواح وأيمان مغلظة: والله لم أشعر بوجودك نزولا وتواجدا فكيف أشعر برحيلك، بَلْهَ أتأثر منه…
إنّها والله وبالله وتالله لحقيقة ذوقية اسْتَمْتُ وخَبَرْتُ تفاصيلها بسند متصل، وشهادات متواترة تحكي في تباريح مؤلمة طُرَفا من سيرة هؤلاء الهلكى، ومن تأمل في عين من أعيانهم وقف على صدق البوح وصادق الشهادة.
والله من وراء القصد يهدي السبيل.