المدخلية في المشهد الديني بالمغرب.. تيار على الهامش أم ورقة سياسية؟

المدخلية في المشهد الديني بالمغرب.. تيار على الهامش أم ورقة سياسية؟
هوية بريس – متابعات
لا يزال التيار المدخلي في المغرب يثير نقاشا محتدما في الساحة الدينية والفكرية، بالنظر إلى ما يطرحه من مواقف حادة تجاه التيارات الإسلامية الأخرى، وموقفه مما يجري من أحداث جسام بقطاع غزة، وما يرتبط به من رهانات سياسية وأمنية جعلت منه موضوعا حساسا في مقاربة الدولة للشأن الديني.
ورغم أنه ليس تيارا عريضا من حيث الامتداد الشعبي، إلا أن حضوره ظل كصوت مغاير يتغذى على خطاب التحذير من البدع والخرافات من جهة، وإعلان الولاء المطلق، في الفترة الحالية، للسلطة السياسية من جهة ثانية.
شيوخ التيار المدخلي بالمغرب
يرتبط التيار المدخلي في المغرب بمرجعيته الأصلية في السعودية، وخاصة بأتباع الشيخ ربيع بن هادي المدخلي الذي يعتبر المرجع الأعلى لهذا التوجه، مثل شيخ طريقة صوفية لدى جماعات أخرى. غير أن حضور رموزه محليا ظل محدودا، إذ لا نجد أسماء بارزة مؤسِّسة داخل المغرب بقدر ما نجد من يطلقون على أنفسهم لقب “دعاة” أو “طلبة علم” متأثرين بالخطاب المدخلي عبر الأشرطة والدروس المنتشرة منذ التسعينات.
كما ظل هذا التيار في المغرب أقرب إلى جماعات صغيرة متفرقة أكثر من كونه تنظيما هرميا له قيادة موحدة.
أفكار التيار المدخلي
يقوم التيار المدخلي على مرتكزين أساسيين:
الأول هو التشدد في مسألة الطاعة لولي الأمر، بحيث يعتبرون أن أي معارضة سياسية أو احتجاج شعبي يُعد خروجا على الحاكم وبدعة تؤدي إلى الفوضى. وفي هذا الصدد أثار مقطع فيديو لبعض المنتمين لهذا التيار سخرية عارمة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لم يحسن النطق بمصطلح “الخوارج القَعَدة” فقرأها بتسكين العين “القعْدة”، بما يحيل على معنى مختلف تماما له دلالات فنية وشعبية بعيدة عن الحقل الديني.
الثاني هو التشدد العقدي ضد من يسمونهم “أهل البدع”، حيث يضعون الصوفية، والإخوان المسلمين، والجماعات الجهادية، وحتى كثير من دعاة السلفية الإصلاحية في خانة واحدة، باعتبارهم مخالفين للمنهج السلفي الصحيح.
ومن أبرز أفكارهم رفض العمل الحزبي والسياسي، واعتبار المظاهرات والإضرابات والانتخابات مسالك غير شرعية.
امتدادات التيار
تتجلى امتدادات التيار المدخلي في المغرب أساسا في دوائر محدودة من الشباب الذين يجدون في هذا التيار خطابا بعيدا عن السياسة ومظهرا صوريا للتمسك بالعقيدة. كما يحظى التيار بحضور نسبي عبر الأنترنت، سواء من خلال مواقع إلكترونية أو صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي تكرر مقولات شيوخهم الكبار.
لكن بالمقارنة مع التيار السلفي الحركي أو حتى الصوفي، فإن امتداد المداخلة يبقى محدودا، إذ يعانون من غياب التنظيم وضعف الانفتاح على المجتمع.
وظائفه الدعوية والاجتماعية
أدى التيار المدخلي في المغرب دورا مزدوجا:
من جهة، لعب دور “المعارض العقائدي” لباقي التيارات الإسلامية، حيث لم يتوقف أتباعه عن إصدار أحكام التبديع والتفسيق بحق المخالفين، ما ساهم في خلق توترات داخل الحقل الدعوي.
ومن جهة ثانية، ساهم في تكريس خطاب الطاعة العمياء للسلطة، وهو ما جعله في نظر بعض الباحثين “تيارا وظيفيا” يخدم الأنظمة السياسية أكثر مما يخدم المجال الديني، إذ يكرس الفرقة والاختلاف بين المكونات الدعوية.
التوظيف السياسي
هنا تكمن النقطة الأكثر حساسية، فكثير من المراقبين يرون أن حضور التيار المدخلي بالمغرب لم يكن عفويا، بل جاء في سياق مقاربة أمنية وسياسية اعتمدت، وعلى المستوى الإقليمي، على تيارات بديلة للحد من نفوذ الإسلاميين الحركيين خاصة في مرحلة ما بعد الربيع العربي.
فالخطاب المدخلي، بتأكيده على الطاعة للحاكم ورفضه لأي احتجاج أو معارضة، كان أداة لتقويض شرعية التيارات التي رفعت شعار الإصلاح أو التغيير. لذلك اعتُبر التيار في أحيان كثيرة بمثابة حاجز وقائي يُستعمل لتشتيت الصف الإسلامي وخلق توازنات داخل الحقل الديني.
تحول من السلمية إلى العنف في تجارب أخرى
ورغم أن المداخلة في المغرب ظلوا في الغالب بعيدين عن الخيار المسلح، إلا أن تجارب أخرى أظهرت تحولات خطيرة لهذا التيار حينما دخل في لعبة التوظيف السياسي والعسكري.
ففي ليبيا مثلا، تحوّل المداخلة من تيار مسالم إلى قوة مسلحة انخرطت في صراعات دموية، ولم يتردد متطرفوهم في تصفية معارضيهم بدم بارد، كما وقع في حادث اغتيال الشيخ الدكتور نادر العمراني سنة 2016، وهو ما كشف الوجه الآخر لخطاب هذا التيار في حال وتمكنه من السلطة والسلاح.
هذه الحادثة جعلت كثيرين يتساءلون: هل التيار المدخلي مسالم فعلا أم أنه مجرد ورقة قد تنقلب إلى مصدر تهديد للدولة إذا تغيرت الظروف؟
موقف الدولة
موقف الدولة المغربية من المداخلة كان في الغالب مركبا. فهي لم تمنحهم أبدا شرعية رسمية كمكون أساسي من مكونات الحقل الديني، كما هو الحال بالنسبة للزوايا الصوفية أو العلماء الرسميين، لكنها في الوقت نفسه لم تواجههم بالقوة نفسها التي وُوجه بها بعض الإسلاميين الحركيين.
الدولة سمحت لهم بالتحرك ضمن هوامش محدودة، خصوصا في بعض المساجد والتجمعات التي استقطب لها دعاة من السعودية (مكناس مثلا)، لأنها تجد في خطابهم “اللاسياسي” مادة مريحة لإدارة التوازنات، خاصة وأنهم يلتقون معها في رفض الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية.
الموقف من باقي العاملين في المجال الدعوي
يتبنى المداخلة خطابا شديد القسوة تجاه بقية العاملين في الحقل الدعوي، فهم يعتبرون الإخوان المسلمين أهل بدعة وخوارج معاصرين. وينظرون إلى الحركات السلفية الجهادية باعتبارها خطرا كبيرا لأنها خرجت على الحكام.
بل حتى السلفيون الإصلاحيون، الذين قبلوا بالعمل الجمعوي والسياسي، لا يسلمون من نقدهم اللاذع.
أما الصوفية، التي تعتبرها الدولة مكونا أصيلا للهوية الدينية المغربية، فهم يضعونها في خانة البدع والخرافات.
وبذلك يقف المداخلة في مواجهة مفتوحة تقريبا مع كل الفاعلين الدينيين الآخرين، وهو ما جعلهم في عزلة نسبية عن المجتمع.
الموقف من أحداث غزة
لم يحد التيار المدخلي في المغرب عن موقف شيوخه في المشرق فيما يتعلق بالقضايا الكبرى وعلى رأسها قضية فلسطين وغزة، إذ يحرص شيوخه على مهاجمة رموز المقاومة الفلسطينية (مثال: يا أبا عبيدة جاهد بالسنن!!) أو ترديد خطاب بارد يبتعد عن دعم المقاومة ويتبني مواقف سياسية تتقاطع ومواقف دعاة “كلنا إسرائيليون” وتخدم أجندات صهيونية بالمنطقة.
هذا الموقف جعلهم في مرمى انتقادات واسعة من فعاليات دعوية وحقوقية وإعلامية ترى في صمتهم تواطؤا أو على الأقل تغطية على العدوان، خصوصا في بلد مثل المغرب حيث تحظى القضية الفلسطينية بتعاطف شعبي واسع، ويُنظر إلى المقاومة باعتبارها شرف الأمة وعنوان عزها وكرامتها.
في الختام..
في المحصلة، يمكن القول إن التيار المدخلي في المغرب لم ينجح في أن يتحول إلى قوة جماهيرية، وبقي محصورا بين فئات محدودة التعليم والكفاءة، وداخل بعض الفضاءات الدعوية التي يمكن توظيفها في لحظات التوتر السياسي التي تحتاج فيها بعض الجهات إلى خطاب ديني يجرّم المعارضة الدينية والاحتجاج.
لكن تجارب دول مجاورة، مثل ليبيا، أظهرت أن هذا التيار قد يتحول بين لحظة وأخرى من صوت مسالم إلى ذراع مسلح عند تغير موازين القوى، وهو ما يفتح باب التساؤل حول مستقبل حضور التيار المدخلي في المغرب: هل سيبقى مجرد أداة وظيفية وظرفية لتوازنات الدولة، أم أن ظروفا إقليمية أو داخلية قد تدفعه إلى تغيير جلده وإعادة التموضع في مشهد ديني وسياسي متحول باستمرار؟



