المرأة في الشريعة الإسلامية
هوية بريس – بقلم: الفقيه المصلح عبد الله كنون
(عن منتدى إحياء للتنمية الأخلاقية والفكرية)
لما قال جزْء بن كُليب الفقعسي أبياته البليغة في النعي على هذا الحديث النعمة المدعو ابن كوز تطاوله إلى الخطبة منهم والتزوج فيهم؛ وهي هذه:
تَبَغى ابْنُ كُوز وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا فَمَا أكْبَرُ الأشْيَاءِ عِنْدِي حَزَازَةً وإنَّا عَلى عَضّ الزَّمَانِ الَّذِي تَرَى فلاَ تَطْلُبَنْهَا يَا ابْنَ كُوزٍ فَإِنَّهُ وَإنَّ الَّتي حُدِّثْتَها فِي أنُوفِنا | لِيَسْتادَ مِنَّا أنْ شَتَوْنَا لَيالِيا بِأنْ أُبْتَ مزْرِيًّا عَلَيْكَ وَزَارِيَا نُعالِجُ منْ كُرْهِ الْمَخَازِيالدَّواهِيَا غَذَ النَّاسُ مُذْ قَامَ النَّبيُّ الْجَوَارِيَا وَأعنَاقِنَا مِنَ الإِبَاءِ كَمَا هِيَا |
نعم لما قال أبياته هذه، لم يكن يقصد إلا إلى تبكيت ابن كوز هذا، ولم يكن يشعر أنه يوضع لنا حدا فاصلا في تاريخ المرأة، قام بوضعه نبي الإسلام عليه السلام.
فالمرأة قبل البعثة المحمدية كانت كاللقيط الذي لا قيمة له، فإنها وإن سلمت من الوأد وهي طفلة، ضنانة بالنفق عليها، لم تسلم من شر منه وهي امرأة، حيث تُمَلَكُ لأول طالب يكون له عليها مطلق التصرف؛ حتى ليبيعها لغيره وتورث من بعده.
لكن لما جاء الإسلام، وقام النبي صلى الله غليه وسلم بالدعوة إلى هذا الدين الكريم، تبدلت الحال، وأصبح للمرأة كامل الاعتبار؛ فأعطتها الشريعة الجديدة من الحقوق عِدل ما عليها من الواجبات، ولم تكن قبل تتمتع حتى بحق الحياة، فكان الإبقاء عليها يعد هبة من الهبات، وهذا ما عبر عنه الشاعر الحماسي الذي أدرك الفرق بين العهدين بقوله البليغ (غذا الناسُ مذ قام النبي الجواريا).
ولسنا بحاجة إلى إيراد ما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية، من الحث على الإحسان إلى المرأة وهي طفلة، والتوصية بها خيرا فيما بعد ذلك؛ فإن هذا معلوم لكل واجد.
فضلا عن أننا نريد أن نعطي هذه الكلمة صبغة البحث المجرد، ونبعد بها عن الصفة الخطابية ما أمكن، وإذا كان لابد من سياق بعض الآيات والأحاديث فإننا ننزلها تنزيلا علميا على ما ذكرناه من الوضعية الجديدة التي أصبحت للمرأة بعد مجيء الإسلام.
فمن الآيات القرآنية في التشنيع على عادة الوأد التي كانت منتشرة بين العرب قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151]
وقوله في سياق آخر لهذه الآية: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) [الإسراء: 31]
وقوله في القضاء على ما بقي لهذه العادة في نفوس القوم من أثر ذميم: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58، 59]
ومن قوله تعالى في الحض على حسن معاملة الزوجات، ولو لم يكن هناك توافق في الطباع: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19]
ومنه في الوصاية بهن إذا ساءت علاقة الزوجية مخاطبا للأزواج: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [البقرة: 231]
ومنه فيما إذا حصل الفراق قبل الدخول، مرشدا إلى ترك أسباب النزاع المادي (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة: 237]
وهذه الآية دعوة إلى المكارمة لا نظير لها في الحسن.
ومنه في توعد الذين يستطيلون على كرامة السيدات الفضليات: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 23 – 25]
وجاء من الأحاديث النبوية بموافقة معاني هذه الآية، قوله صلى الله عليه وسلم في الحض على تكرمة البنات وعدم تسخطهن: “من ابتلى من هذه البنات بشيء، فأحسن إليهن كن له سترا من النار“.
وقوله في حسن معاملة الزوجات: “خياركم خياركم لنسائهم“، وفي رواية أخرى لهذا الحديث: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي“.
وقوله في خطبة الوداع: “اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بامانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله”.
إلى غير ذلك من أقواله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد.
وعلى كل حال، فقد جعل الإسلام للمرأة مكانة اجتماعية لم تكن لها عند العرب، ولا عند غيرهم من الأمم، إذ جعلها ربة البيت المسؤولة عن تدبيره، وهي لم تكن فيه إلا من سقط المتاع:
“كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها“.
وبسط يدها في مال زوجها بالمعروف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب، وقد اشتكت إليه تقتيره عليها: “خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك“.
وذهب في مراعاة شعورها وحفظ كرامتها، إلى أبعد الحدود حتى نهى الرجل أن يطرق أهله ليلا إذا طال السفر مخافة أن يتخونهن أو يلتمس عثراتهن كما في الحديث الصحيح.
ثم إنه بعد أن قرر للمرأة هذه المكانة الاجتماعية الخطيرة، نجده أعطاها من الحقوق المدنية والسياسية ما لم تظفر به لحد الآن عند أكثر الأمم تسامحا في حق المرأة؛ فأباح لها التصرف في مالها بالبيع والشراء والأخذ والعطاء إذا كانت رشيدة.
ولم يجعل ذلك متوقفا على إذن أب ولا أخ ولا زوج إلا في جزء خاص من المال في حالة خاصة يساوي الرجل فيها المرأة، بالنسبة إلى ورثته من أولاده وأقاربه الفقراء.
وهذا الحق ليس للمرأة الفرنسية التي تعد المثل الأعلى في الحرية والتمتع بأسباب الحياة، فإن القانون الفرنسي يقيد المرأة عن التصرف في مالها إلا برضى زوجها وإجازته.
وأعطى الإسلام للمرأة حق حضانة الأولاد، وقدمها في ذلك على الرجل، ولو كان أبا وهي غير أم، وذلك عند مفارقته لأمهم وعند وفاته بالأحرى وفي ذلك من التقدير لعاطفة الأمومة، ومن الثقة بكفاية المٍرأة في هذا المهم العظيم وما لا يخفى.
على أنها تكون أيضا وصية، فتقوم مقام الموصي في النظر للمحاجير وتدبير شؤونهم المالية وغيرها، فتمت بذلك مسؤوليتها المدنية من جميع الوجوه.
وغير خاف على أحد أنه يجوز للمرأة الاشتغال بالطبابة، والإشراف على المؤسسات التربوية، والمشاركة في الحروب، بأعمال الإسعاف ومداواة الجرحى، بل حتى بالقتال حينما يتعين على كل أحد وذلك عند مفاجئة العدو لأرض الإسلام؛ ولقد رئيت عائشة وأم سليم (رض) في غزوة أحد، وهما مشمرتان عن سوقهما تنقزان والقرب على متونهما فتفرغان الماء في أفوه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم.
وأول ما ركب المسلمون البحر للغزو، كانت معهم أم حرام بنت ملحان التي سبق أن أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وأجاز صلى الله عليه وسلم أمان أم هانئ لأحد الكفار يوم فتح مكة، وكان أخوها علي كرم الله وجهه يريد قتله، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم قالت يا رسول الله زعم ابن أبي طالب أنه قاتل رجلا أجرته”.
فقال صلى الله عليه وسلم: “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ”.
والأئمة كلهم على إجازة أمان المرأة للحربي، عملا بهذا الحديث والحديث الآخر الذي هو أعم منه دلالة: “المسلمون تتكافأ دماءهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجبر عليهم أقصاهم، وهم يد على ما سواهم”.
وعمل صلى الله عليه وسلم بإشارة زوجه أم سلمة يوم الحديبية، وكان قد أنكر حال المسلمين، فدخل عليها وقال: “هلك المسلمون، أمرتهم مرارا فلم يجبني أحد”.
فقالت: “لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ولكن أخرج ولا تكلم أحدا منهم، وانحر بدنك، واحلق رأسك، فإنهم يفعلون كما فعلت”.
فكان الأمر كما قالت، وسميت بذلك مستشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالجملة فليس هناك عمل يحق للمرأة أن تزاوله –وهو يتصل من قريب أو بعيد بمهمتها في الحياة- إلا خولها الشارع الإسلامي إياه، وزاد على ذلك أمورا من السياسة العامة، لا يزال بعض الناس يمانعون فيها، وهي كما رأيت من المنصوص عليه؛ فالأولى أن تمنحها بموجب الشرع، قيل أن يهدم السد وتنتزعها انتزاعا.
وذلك ما عبرت عنه الآية الكريمة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228]
أحسن تعبير وأدقه، فليس على المرأة واجب لا يكون في مقابلته حق، وتلك غاية العدالة التي يستوي عندها الرجال والنساء.
وتوسع بعض فقهاء الإسلام فيما يجب للمرأة أن تليه من الأعمال؛
فقال أبو حنيفة: أنها تلي القضاء في الأموال دون القصاص.
وروي هذا القول أيضا عن مالك.
وقال محمد بن الحسن ومحمد بن جرير الطبري: يجوز أن تكون المرأة قاضية على كل حال، نص عليه الباجي في المنتَقى.
ونحن إذا نظرنا في الدلائل والأصول، لم نجد هناك نصا يمنع المرأة من أن تلي القضاء وغيره من الأعمال الحكومية باستثناء الوظائف الرئاسية التي هي ولا شك المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: “لن يفلح قول ولوا أمرهم امرأة“.
وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث في أهل فارس لما قيل: إن كسرى مات وإن رعيته ولوا عليه ابنته.
نعم إذا كانت ولايتها لشيء مما ذكر في دائرة النظام الإسلامي، فينبغي أن يعرف أنها لابد أن تتقيد بواجبات الإسلام في المظهر والسلوك العام، فتنبذ هذا التبرج الآثم، والاختلاط المريب، وتلتزم التصون والعفاف، على ما كانت عليه المرأة الإسلامية في العهد الماضي، لما قال أولئك الفقهاء قولهم وأباحوا لها من ولاية القضاء ما أباحوا.
أما مع التبرج وإبداء الزينة، والخلوة بالأجنبي، فإنه لا يصح أن تباشر شيئا من ذلك داخل النظام الإسلامي الذي له في مسألة المحافظة على الأخلاق نظر معروف.
وهذا كله قد يكون محل وفاق بيننا وبين الذين تختلف أنظارهم في الموضوع.
ولكنهم يعترضون بأن ما ذكرناه منقوض بما قسم الإسلام للمرأة في الإرث من قسمة ناطقة بعدم المساواة بينها وبين الرجل، فإن ذلك بخس عظيم لحقها فأين ما تدعونه لها من توفية الحقوق وحفظ الكرامة؟
وهؤلاء المعترضون، يجهلون أن الشريعة الإسلامية شريعة عملية، وأن مبناها على الأساس: خذ واعط ، كما أشارت لذلك الآية السابقة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228]
فالمرأة في الإسلام تأخذ الصداق ولا تعطيه، كما عند الأمم الأخرى، وتجب نفقتها على الزوج، وإن كانت غنية وهو فقير، وليس عليها أن تخدمه، بل عليه هو أن يتخذ لها خادما إن كانت من ذوات القدر، ففي مختصر الشيخ خليل المبين لما به الفتوى عند المالكية: “واخدام أهله وإن بكراء ولو بأكثر من واحدة”.
ولذلك فهي في الإرث تأخذ نصف ما يأخذه الرجل الذي عليه كل هذه الواجبات، وذلك من الإنصاف الذي لا يمتري فيه اثنان، بل الواقع أن لها في هذه القسمة تمييزا على الرجل، فلو أنها قسمنا لها بالتسوية وكلفناها بتلك الواجبات لكان عليها حيف كبير في ذلك، فضلا عن الغضاضة التي تلحقها في دفع الصداق إلى الزوج، وما يرضي الزوج من الصداق.
على أننا لا ينبغي أن ننسى هنا بعض الأمم المتحضرة تخص الابن البكر بإرث الوالد، فتكون البنت عندهم محرومة بالكلية من أي حق في إرث والدها؛
فأين يجيء ذلك مما فرضه الإسلام؟
ويعترضون بأن الإسلام جعل حق الطلاق للرجل دون المرأة، وفي ذلك تمييز له عليها، وما دروا بأن الحكمة في ذلك تقليل حوادث الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله على ما يروى؛
فإذا نظرنا من وجهة واقعية إلى علاقات الأزواج بعضهم مع بعض، وما يمكن أن تتعرض له هذه العلاقات يوميا من توتر ثم انقطاع، نجد أن الطلاق يتهدد الحياة الزوجية كل يوم بسبب الخلافات التي تنشب عادة بين الأزواج.
والمرأة بسرعة انفعالها ولكونها قد تكون لها ضرة أو ضرات لابد أن تلجأ إليه أكثر من الرجل ظانة أن فيه راحتها من متاعب الزوجية.
مع أن حقيقة التعب النفسي والجسماني هي في تأيمها وحياتها بدون زوج، بخلاف الرجل فإنه أكثر ضبطا لعواطفه وأكثر تقديرا للموقف ولاسيما حين يكون زوجا لأكثر من واحدة فلا يسرع إلى الطلاق إسراع المرأة، ولا يرى فيه الخلاص الذي تراه المرأة في مشاكل البيت التي لا معدى عنها.
وذلك فضلا عن أنه الذي دفع الصداق وأنفق الكثير من ماله في تكوين هذا البيت المهدد، فهو إن لم يمسك عن الطلاق لمانع أدبي فلابد أن يمسك عنه لمانع مادي.
وهذا هو معنى قول فقهائنا بلغة الفقه الساذجة: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق).
ولعله لو وضع إحصاء في بلاد أوروبا وأمريكا التي تتايعت الآن في الطلاق تتايعا كبيرا، بعد أن كانت لا تقول به، لوجد أن أكثر طالبيه من النساء، وإن لم يكن كذلك فلابد أن يكون عامل تبرج المرأة وتحللها من كثير من الواجبات الخلقية ذا أثر بليغ في حمل الرجال هناك على الطلاق.
وإذا كان الإسلام لم يجعل للمرأة حق الطلاق مباشرة، فقد جعله لها بواسطة: وهي أن تشترطه في عقد الزوجية، أو أن تختلع من الزوج ببذل بعض العوض في مقابلة النفقات التي اقتضتها رابطة الزواج.
وأعظم من ذلك، أنه جعل لها الحق في دفع التهمة عن نفسها بمجرد يمين تسمى لعانا، فتحرز بذلك نفسها وشرفها.
وليس لهذا التشريع وجود في قانون غير قانون الإسلام، مع أن مورده هو أكثر الأسباب لوقوع الطلاق في بلاد الغرب، على أن الكثير من فقهائنا ذهبوا في الستر على المرأة إلى أبعد من هذا الحد، فقرروا أن أمد الحمل في أقل تقدير: ستة أشهر، وفي أكثره: خمسة أعوام.
فإذا جاءت المرأة بولد لأقل الأمد، وهي في عصمة زوجها، أو لأكثره، وهي مطلقة أو متوفي عنها، فهو ولد شرعي لا يحق للزوج ولا لأهله أن ينفوه عنهم مع مخالفة ذلك للنواميس الطبيعية، ولكن الشارع الإسلامي الذي أمر بالمحافظة على الأعراض والأنساب وقال: “ادرأوا الحدود بالشبهات …والولد للفراش“.
أتاح الفرصة الاجتهادية في هذا الحكم للفقهاء الأعلام، فحموا بذلك المرأة المسلمة بل الأسرة الإسلامية من أن يتطرق إليها القيل والقال.
اللهم إلا إذا ألح الزوج في الأمر، فالمخلص هو اللعان المذكور آنفا.
ومن التشريعات الإسلامية التي تترتب على الطلاق، وفيها محاسنة للمرأة، ما أمر به الله تعالى من تمتيع المطلقات في قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236]
ويمكن للقاضي بالاستناد إلى هذا الأمر أن يفرض للمرأة في مال مطلقها مبلغا يعوض لها ما لحقها من الضرر بسبب الطلاق، إذا ثبت ذلك، وهو معروف، أمر به الكتاب العزيز في حالة الفراق العادية على سبيل الإلزام فيما إذا كان الفراق بحالة فيها ضرر على الزوجة، ويكون تقديره مما يحمل على التفكير كثيرا في إيقاع الطلاق فبل الإقدام عليه.
ويقول المعترضون أيضا أن التشريع الذي يبيح للرجل تعدد الزوجات، لا يكون في مصلحة المرأة مطلقا، ولا يعدوا أن يكون استهتارا بحقوقها التي تزعمون أنه يكفلها فضلا عما يسببه للأسرة التي تبتلى به من حياة اجتماعية مضطربة.
والواقع أن التشريع الإسلامي الذي يحمل طابع العمومية قد يضحي بمصلحة الفرد لمصلحة الجماعة تضحية طفيفة كما هنا.
فإنا إذا نظرنا للمسألة من الناحية العاطفية، نجدها أنها ليست في مصلحة المرأة كفرد، ولكن إذا نظرنا إليها من المصلحة العملية نجدها عين المصلحة بالنسبة إليها كجنس؛ وذلك أن ارتفاع نسبة المواليد الإنسانية في الإناث عنها في الذكور الذي هو ظاهرة طبيعية لا يمكن إنكارها، يسبب أزمة اجتماعية في كل الأمم، هي نقصان عدد الأزواج عن عدد طالبات الزواج، ويتفاحش هذا النقصان بالحروب التي تحصد الرجال حصدا، فضلا عن كون الوفاة الطبيعية المبكرة بين الرجال أكثر منها من بين النساء كما هو معلوم.
فإذا لم نحل هذه الأزمة بتعدد الزوجات فإن كثيرات من الفتيات البريئات، فضلا عن الأيامى الشابات يعنسن ويبقين محرومات من الحياة الزوجية ومباهجها التي يتمتع بها من أسعدهن الحظ بالزواج ودوامه.
ولقد جاء في بعض الإحصائيات أن بمدينة لندن وحدها مائة ألف فتاة عانس يائسة من الزواج، وإذا كان هذا في إنجلترا فكيف يكون الحال في ألمانيا التي خسرت في الحربين العالميتين الأخيرتين عدة ملايين من زهرة شبابها وخيرة رجالها.
ولا شك أن ما تقاسيه الفتاة العانس والمرأة الأيم من كآبة العيش وجهامة الحياة، هو مما يعفي ما تشكوا منه المرأة التي لها ضرة من خيالات الحب وأوهام الغيرة، فكيف لا نضحي بهذا لذلك.
على أن هذا كله، إنما هو بالنظر إلى المسألة من الناحية الوجدانية والجنسية، وأما بالنظر إليها من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فإن العدالة تقضي بوجوب تكافؤ الفرص بين أبناء الأمة الواحدة وألا يعيش شخص في بحبوحة النعيم بينما يحرم آخر حتى من الضروريات التي لا غنى عنها، ولذلك نرى أن المصلحة العمومية في هذا التشريع رجحت بالمصلحة الفردية، وأن المرأة التي تشكو من مقاسمة ضرتها دفء الزوجية وخيرها الكثير إنما هي امرأة أنانية تقدم مصلحتها الشخصية على مصلحة الأمة، فلا ينبغي أن يقام لشعورها وزن.
وإذن فمصلحة المرأة الحقيقية هي ما كفله هذا التشريع، والاستهتار بحقوقها هو حرمانهما من التمتع بمزاياه، والحياة الاجتماعية المضطربة هي في ترك قسم غير قليل من بنات الأمة محروما معرضا للغواية والإغراء، نتيجة لحياة الخصاصة والتشوف التي يضطر إليها اضطرارا، وما كان الإسلام ليقر هذا التشريع – بعد تحويره – وقد كان في الأمم السابقة إلا لتفادي ما يترتب على إبطاله من مفاسد خلقية واجتماعية.
ولعله قد آن الأوان لمعرفة ما في شرائع الإسلام من خير وصلاح للإنسانية، فبعد الإقرار بضرورة الطلاق واصطناعه في أكثر أمم الحضارة المسيحية اليوم، نرى أن هؤلاء المعترضين يدلفون أيضا إلى الاعتراف بضرورة تعدد الزوجات لإنقاذ المجتمعات الإنسانية مما تتخبط فيه من الويلات؛
فهذا الكاتب الألماني الشهير (إميل لوديفك) يقول في أحدث مؤلفاته، وهو كتاب له عن الحياة والحب:
“إن تعدد الزوجات أمر طبيعي، وعدمه مخالف للطبيعة الإنسانية”.
وجاء في كتاب قصة الحضارة للكاتب الأمريكي الكبير ويلي دويرانت:
“إن اصطناع المسيحيين لنظام الزوجة الواحدة يعد مخالفة للإنجيل الذي يبيح التعدد”.
فهل عني هذا تراجعا في الفكرة الغربية بالنسبة إلى هذا التشريع؟
الشهادة والدية:
بقي من المسائل التي ربما تورد على موضوع حقوق المرأة في الإسلام وعدم مساواته لها بالرجل: مسألة الشهادة ومسألة الدية.
فأما مسألة الشهادة فهي جعله شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين، ونحن نرى أن في ذلك رفقا بالمرأة وابتعادا بها عن أسباب الخصومة؛ لأن الشهادة مهمة خطيرة، تترتب عليها مسؤوليات كثيرة، وربما تسببت عنها عداوات وأضرار شخصية مختلفة، فالأولى بالمرأة ألا تتورط في حبالتها، وإن كان ولابد فإن اعتضادها بامرأة أخرى يخفف عنها عبء هذه المسؤولية ويجعل المشهود عليه يتروى في أمره، فلا يتعجل بالخصومة ولا بما ينشئ عنها من الأذى.
أما إذا لم توجد المرأة الثانية فإن الواحدة تكون حينئذ معفية من أداء هذا الواجب ومتحللة من جميع تبعاته.
ومن تأمل قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) [البقرة: 282]
أدرك خطورة أمر الشهادة، وخاصة من قوله: “ولا يأب” فإن الإباء إنما يكون من شيء ثقيل على النفس وهو ما أراح الله منه المرأة، وحط عنها وزره، إلا أن تعينها عليه امرأة أخرى.
وأما مسألة الدية، فهي وإن لم تكن مما يورد في هذا الصدد؛ فإنا نحب أن نوردها، ونجيب عن شبهتها لئلا يلوح بها بعض المعترضين فيما بعد.
وقد اشتهر بين الفقهاء أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية فإذا بلغت الثلث كانت على النصف من دية الرجل.
هذا هو قول جمهور أهل المدينة والفقهاء السبعة، وبه أخذ مالك، وأصله ما روي عن عمرو بن العاص مرفوعا: “عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته“.
قال ابن عبد البر: وإسناده ضعيف، إلا أنه اعتضد بقول ابن المسيب هي السنة.
قال الباجي: “واختلف على عمر وعلي فروى عنهما بإسناد ضعيف أنها على دية الرجل في القليل والكثير، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وروي عنهما مثل قولنا أي قول المالكية من أنها على النصف من دية الرجل”.
هذا هو حكم المسالة في المذاهب الإسلامية، ولا يخفى أنه بعد الحكم بضعف الحديث تبقى المسألة اجتهادية، ولا يكون المذهب الفقهي حجة على الإسلام إذا خالفه غيره، فكيف إذا كان سنده ضعيفا.
وقد تساويا في القصاص في القتل، والدية إنما هي تقويم للدم فلا مندوحة عن التساوي فيها أيضا.
والخلاصة أن المرأة في الإسلام لها مركز اجتماعي هام، ولها من الحقوق مثل ما عليها من الواجبات فهو يعتبرها عضوا عاملا في الهيئة الاجتماعية: تسعد الأمة بسعادته، وتشقى بشقائه، ولم يزو عنها من التكاليف إلا ما زوته عنها الطبيعة، وكان لا يتوافق وكرامتها التي يحرص كل الحرص على حفظها وعدم المساس بها …
وقد تبجحت الأمم المعاصرة كثيرا بتحرير المرأة، ولكنها – قانونيا – لم تسمح لها بعشر ما سمحت لها به الشريعة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا، اللهم إلا مظاهر فارغة وتمويهات باطلة تغر وتغوي، ولكنها لا تغني من الحق شيئا.
فمن السخف المقارنة بينها وبين الحقائق الثابتة التي لا يتطاول إليها الشك والارتياب.
تلك المكارم لا قبعان من لبن | شيبا بماء فعادا بعد أبوالا |
المرجع:
عبد الله كنون؛ كتاب “مفاهيم إسلامية” (ص 99 – 107).