المراجعة الفكرية بين الشجاعة العلمية والخيانة الأخلاقية
هوية بريس – د.رشيد بن كيران
ليس عيبا أن يكون الإنسان على مذهب عقدي أو فقهي أو سلوكي، وأن يدعو إليه بقناعة تامة، ثم يظهر له بعد البحث والنظر خلاف ما كان عليه فيرجع عن رأيه السابق. بل هذا دليل على تواضعه وسعيه للوصول إلى الحق.
ولكن العيب كل العيب أن يغير الإنسان مذهبه في صمت دون إبلاغ الناس الذين دعاهم بالأمس إلى المذهب السابق، خاصة إذا كان داعية نشطا ومؤثرا.
والأشد قبحا من ذلك أن يتنصل من مذهبه القديم وينكر ما كان يعتقده، فيهاجم من يقول به كما لو أنه لم يدن به يوما، متناسيا مسؤوليته أمام الله وأمام الناس الذين تأثروا به.
◇ للأسف، أعرف كثيرا من هؤلاء الذين يتخذون هذا النهج، وليس من الصدفة أن يجمع بينهم غالبا ركوب مناصب من الجهة الوصية! أو يحومون حولها. لا أستطيع أن أقول إنهم باعوا دينهم بعرض من الدنيا، ولكن تصرفاتهم تثير الاستغراب والتعجب والاشمئزاز.
▪︎ تصوروا، أيها السادة، شخصا كان بالأمس يقول بتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام (توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات)، ويؤسس دعوته إلى دين الإسلام على هذه المفاهيم. ثم، فجأة وبدون مقدمات أو إعلان للمراجعة، نجده يسفه هذا التقسيم ويهاجم من يدعو إليه.
▪︎ أو آخر كان يقرر أن توحيد الربوبية وحده لا يكفي لدخول الإسلام، مستشهدا بأن مشركي العرب كانوا يعترفون بربوبية الله ومع ذلك كانوا كفارا، ثم بعد ذلك يصف هذا الرأي بأنه سطحي وضعيف، مع أنه كان يدين به بالأمس وينشره.
▪︎ وأيضا منهم من كان يقرر أن الإيمان قول وعمل، وأن الأعمال منها ما هو شرط في صحة الإيمان، ومنها ما هو واجب فيه، ومنها ما هو كمال فيه. لكنه، بدم بارد، يغير موقفه فجأة ليقول إن الأعمال مجرد شرط كمال في الإيمان، ويصف من يخالفه بأنه متشدد أقرب إلى الخوارج والمعتزلة، دون أي تفسير أو تبرير لما كان عليه بالأمس.
▪︎ ومنهم من كان يهاجم الشيخ الألباني ويصفه بالإرجاء، ثم عندما تبنى مذهبا جديدا من مقتضياته أنه أصبح موقفه أكثر إرجاء مما كان ينتقده بالأمس، ومع ذلك يهاجم بسخرية من يقول بقوله القديم.
▪︎ أو آخر كان يعتبر الإمامية دينا له أصوله وليس مذهبا إسلاميا، ثم غير موقفه وأصبح يسفه القول الذي كان يؤصله بالأمس ويدافع عنه.
▪︎ ومنهم من كانت محاضراتهم عامرة بذكر أسماء علماء السلفية كابن تيمية وابن القيم والشيخ السعدي وابن العثيمين وغيرهم، ويصفونهم بالعلامة وشيخ الإسلام، ثم فجأة اختفى ذكرهم تماما وكأنهم لم يكونوا جزء من مرجعيتهم الفكرية.
♦ الموقف الأخلاقي والعلمي:
كما ذكرت في البداية، ليس عيبا أن يراجع الإنسان مواقفه الفكرية والعقدية والفقهية إذا ظهر له الحق في غير ما كان عليه. لكن المعيب أن يتنصل مما كان عليه دون إعلان واضح وصادق للناس.
المطلوب شرعا وأخلاقيا من كل داعية يغير مذهبه أن يعلن ذلك بوضوح لأن الأمر دين، كما فعل الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله الذي عندما تبين له فساد مذهبه السابق، صعد المنبر وقال: “إني كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى بالأبصار، وأن الشر فعلي ليس بقدر، وإني تائب إلى معتقد الرد على المعتزلة”.
هكذا يكون العلماء، شجعانا في الاعتراف بأخطائهم، صادقين مع أنفسهم ومع أتباعهم. أما هؤلاء الذين يغيرون مواقفهم في الخفاء ويتنصلون من الماضي، فهم ليسوا أمناء على الدين أو العلم.
♦ وأخيرا وليس آخرا، المراجعة الفكرية حق لكل إنسان، بل هي واجب إذا ظهر الحق. لكنها تتطلب شجاعة أخلاقية واستحضار رقابة الله، وصدقا مع الذات ومع الآخرين. أما التنصل من الماضي دون إعلان والهجوم على ما كان يُعتقد بالأمس، فهو خيانة للأمانة العلمية وطعن في مكانة الداعية أو العالم.