المساجد والحانات: حيث لا تستقيم المقارنة (1) القناع والحقيقة
هوية بريس – محمد زاوي
1-ضرب مصالح الشعب المغربي تحت قناع الدفاع عنها
لقد تكبدت جريدة إلكترونية (كود)، على لسان أحد محرريها، عناء الحديث فيما لا تفهمه. ودعونا نقول الحقيقة: “إنها تتجاهل وتخفي ما تفهم بقصد نعلمه ونسِرّه”. على لسان محررها جاء الآتي اختصارا: “تستفيد الدولة من مدمني الخمور وبائعيها ما لا تستفيده من المصلين والقائمين على شؤونهم، هؤلاء لا يدفعون شيئا، وأولئك يساهمون في تنمية الاقتصاد الوطني ويتخلصون من ذنوبهم بإنفاقهم في سبيل بقاء الدولة”.
إلى أي صنف من أصناف الجهل (2) ننسب هذا القول؟
أننسبه إلى الجهل بالإنسان؟
أم ننسبه إلى الجهل بالدين وأدواره؟
أم إلى الجهل بتاريخ المجتمع والدولة المغربيين؟
أم إلى الجهل بالشأن الديني في المغرب؟
أم إلى الجهل بالاقتصاد السياسي للاستعمار الجديد؟
أم إلى الجهل بالذهنية المغربية؟
…
إنها “ظلمات من الجهل، بعضها فوق بعض”. لقد نطق الجهلة، حيث سكت العالِمون. لقد نطقوا، حيث باع بعض مثقفينا أنفسهم للأجنبي، وحيث عجزت بقية النخب عن إيجاد إشكاليتها الحقيقية في مغرب الاستعمار الجديد. في هذه النازلة، سيتكلم كثيرون عن أحكام الخمور والصلاة، وسيتكلم آخرون عن حرية التعبير، وغيرهم عن تغول العلمانيين في المغرب، وعن تراجع الإسلاميين والسلفيين والفقهاء عن الدفاع عن حرمات الله… والحقيقة، هي أن كل هذه المواقف تحمل قدرا من الزيف معها، بقدر ما تحمل إشكاليات أصحابها منه. قد تنفع بعض هذه المقولات (المحافظة منها خصوصا) في سياق الصراع الإيديولوجي، ولكنها غير سديدة على عدة مستويات: في النظرية، والموقف، والممارسة. أما بعضها الآخر (حرية التعبير ومشروع تنوير المخدرات والخمور وغابوية الجنس)، فهو ضد مصالح الشعب المغربي جملة وتفصيلا. هذا هو الخطاب الذي يحتاج إلى ترويج، فهم ليسوا ضد الدين مجردا، ولكن ضد التدين المغربي مخصوصا. وبالتالي، ضد: وحدة المغاربة، تماسكهم الاجتماعي، ما يجمعهم ويحرضهم للدفاع عن وطنهم، ذاكرتهم، تاريخهم المشترك، رموزهم الوطنية، ثقافتهم الوطنية، الشرعية السياسية لحكمهم.
…
دعونا الآن نتحرى قليلا أصناف الجهل التي سقطت فيها جريدة “كود” على لسان أحد محرريها، حتى يظهر للمغاربة زيف قول من ادعى “التنوير” في زمن “التزوير”.
2-في جهل صاحب القول بالإنسان
يعرف التاريخ بأنه “فعل الإنسان في الزمن” (3)، ويعرف بأنه “الإنتاج المادي للإنسان في الزمن” (4). ولكن، دعونا نتساءل: هل الفعل المادي للإنسان يحصل بعيدا عن السيكولوجيا والأسئلة الوجودية والثقافة؟
لو كان الأمر كذلك، لما كانت:
– الأنثروبولوجيا التي ندرس -مما ندرس فيها-ذهنيات المجتمعات الما قبل تاريخية.
– تاريخ الأديان الذي ندرس فيه تطور علاقة الإنسان بالغيب: من “القوى السارية” إلى “الآلهة المشخصة”، ثم من “تعدد الآلهة” إلى “تفريدها” ف”توحيدها”، ثم من “الدين” إلى “الإيديولوجيات الدينية”. (5)
– الميثولوجيا التي ندرس فيها نشأة الأسطورة وتطور بنيتها واستمرارها في تاريخ الإنسان وما قبله (التاريخ).
– التحليل النفسي الذي يبحث في مضمون اللاوعي ويسعى إلى الوعي به ما أمكن (6)، بما في ذلك لا وعي الجماهير وتاريخ لا وعي الأفراد والمجتمعات.
– التمييز بين البنى الفوقية والبنى التحتية، والقول باستقلال الأولى ب”قانونها” عن الثانية، بالرغم من ترابطهما وعلاقتي التأثير والتأثر المتبادلين بينهما. (7)
…
لو كان الأمر كذلك، لما كانت الحاجة لعدة تخصصات علمية غير التكنولوجيات والاقتصاديات.
3-في جهل صاحب القول بالدين وأدواره
إن للدين عدة أدوار يؤديها، وهي تلك التي يمكن حصرها في دورين أساسيين: دور أنطولوجي، ودور إيديولوجي. يميل البعض إلى القول بدوره الإيديولوجي فحسب (أمثال بعض الماركسيين العرب)، ويكتفي آخرون بالدعوة إلى أدواره الأنطولوجية فقط (أمثال عبد الجبار رفاعي ومن ذهب مذهبه). والحقيقة، هي أن الدين لا يستغني عن كلا الدورين. فهو أنطولوجي، عند استحضاره في موضع طمأنة وعلاج نفسي (يقول الله تعالى: “اللذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب”). وهو إيديولوجي، عند استحضاره في موضع توحيد وتحريض وتثبيت في المعارك (يقول الله تعالى “إن تنصروا الله ينصركم”).
والآن، وقد تأكدت أدوار الدين هذه، هل يمكن فصل الأفراد عن مجتمعه؟ وهل يمكن الحديث عن المجتمع في غياب الأفراد؟
هل تبقى الدولة في منأى عن التأثر بأحوال الأفراد في المجتمع؟ وهل يمكنها أن تدعي عدم الاكتراث بهذه الأحوال وعدم التدخل فيها بالتسديد والتصويب لصالحها؟
وهل يمكننا القول بتهميش الدين في خضم هذا النقاش بالنسبة للحالة المغربية؟
لم يتكبد صاحبنا عناء الإجابة على هذه الأسئلة، فكان العبث.
4-في جهل صاحب القول بتاريخ المجتمع والدولة المغربيين
شاع بين أهل العلم قول بعضهم: “لقد تأسست الدولة في المغرب على أعين الإمام مالك”. وهذا قول بليغ، له ما قبله، كما له ما بعده. لقد كان الفاتحون الأوائل أصحاب رواية، ولكنهم لم يكونوا يهتمون بالرواية أكثر من اهتمامهم بالقرآن. مشاكل الفتوح، ومشاكل اللغة، هي التي حالت في البداية دون الاهتمام بالرواية كما تم فيما بعد. وبعد أن احتاجت الدولة إلى التشريع ودرء الأفكار المنحرفة والنبوات المزعومة، استنجدت ب”الموطأ” كما جاء به المغاربة رواية عن الإمام مالك في رحلات العلم والحج. فكان “الموطأ” بداية، وترسم بعده “صحيح مسلم” واعتني به، ليتربع “صحيح البخاري” على عرش الكتب الحديثية فيما بعد. وزيادة على ذلك، اعتنى المغاربة دولة ومجتمعا بالكتب الستة، واستجلبت الدولة المسانيد الثلاثة. (8)
أما عن تاريخ علاقة المغاربة بالدين قراءة ومذهبا وعقيدة وسلوكا، فحدث ولا حرج. رسموا قراءة الإمام نافع على رواية ورش المصري، بعدما قدم بها أبو جعفر محمد بن خيرون من أهل إفريقية (تونس). واقترانا بقراءة الإمام نافع، تلقى المغاربة مذهب الإمام مالك، وتعززت مكانته بينهم منذ منتصف القرن الثاني للهجرة على يد الأمراء والعلماء. وقد كان المغاربة على عقيدة السلف، فلما احتاجوا إلى ما يردّون به شبهات العقائد الدخيلة، وجدوا في أشعرية ابن تومرت ضالتهم بعد تحريرها وتنقيحها. وفي السلوك، اطمأنوا لطريقة الجنيد العلمية الأخلاقية الصاحية. (9)
تكلما هنا عن الاختيارات المغربية في الحديث والقراءة والمذهب والعقيدة والطريقة، وكل هذا لا ينفي أثر الدين في الحياة اليومية للمغاربة ومعاركهم السياسية عبر التاريخ، بل يعززه ويؤكده. يخدم المغربة الدين مجتمعا ودولة، فيخدمهما ويحظ مصالحهما في الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
5-في جهل صاحب القول بالشأن الديني في المغرب
بمنطق صاحبنا، لا حاجة للمغاربة بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وهذا قول خطير، له ما بعده. فليس عبثا أن تحافظ الدولة المغربية على هذه الوزارة منذ قرون، وليس عبثا أن تصان “الاختيارات المغربية” من طرفها، ولا أن يهيكَل القطاع الديني كما هو اليوم، ولا أن يعيّن على رأسه مثقف كبير كأحمد التوفيق (10). والحقيقة، هي أن من ينصت مليّا إلى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، يستنتج الآتي:
– قيام “البيعة” في المغرب، كتعاقد سياسي، عبر التاريخ، على أسس: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال. ومنه يكون الدين أحد الركائز الكبرى التي تقوم عليها شرعية الحكم في المغرب.
– دور الوحدة المذهبية (المذهب المالكي) في ضبط المعيار الفقهي وتوحيد الفتوى وتنظيمها تحت سقف مصالح الدولة، ومصالح المجتمع من مصالح الدولة (إلا إذا ثبت العكس بمنطق كلي وجدلي).
– دور العقيدة الاشعرية في التخفيف من حدة التطرف العقدي، حيث يسود التكفير والعنف اللفظي عوض التحلي بالقابلية للحوار والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن. فالإمام أبو الحسن الأشعري لم يكن يكفر أحدا من أهل القبلة، ولم يكن يلجأ إلى عنف لفظي، بل كان يجادل بالتي هي أحسن وينزع إلى البرهنة على عقائد النقل بالعقل.
– دور تصوف الأخلاق في تهذيب أخلاق المغاربة، ووقايتهم من أمراض النفوس وتفشي الإجرام وتعاطي المخدرات، وإعطائهم مجالا أكبر للانفتاح على الحضارات والأمم الأخرى دون استلاب لها.
…
يقوم الشأن الديني في المغرب على سياسة واضحة، قد يتفق معها بعض الفاعلين وقد يختلفون، ولكنها على كل حال سياسة واضحة وقاصدة. وليس ذلك عبثا، كما تريد أن تصور الجريدة المعلومة. من شر البلية ما يضحك، ومن شر البلية أن يتكلم في شؤون العامة من لا يفهمها إلا على ضوء ذاته القاصرة.
6-في جهل صاحب القول بالاقتصاد السياسي للاستعمار الجديد
فلنطرح هنا الأسئلة التالية:
هل يتجلى مشكل الدولة الاقتصادي في تراجع مداخيل الخمور وما يؤديه أصحابها من ضرائب؟
من هم أصحابها؟ هل هم مغاربة أم أجانب؟ ألا يتهربون من أداء الضريبة كما يتهرب غيرهم؟
لا جواب لدينا على هذا السؤال الأخير لعدم توفر معطياته لدينا، ولكن السؤال الأول هو ما نرى أنفسنا قادرين على الإجابة عليه إلى حدّ ما. فالمشاكل الاقتصادية التي يتخبط فيها المغرب ليست وليدة اليوم، ولا هي ثابتة لا تتحرك. إنها قديمة ومستمرة، قديمة قدم الاستعمار، ومستمرة باستمرار الابتزاز والديون ونتائج الاستعمار الجديد. هي عدة مداخل إذن، لفهم المشكل الاقتصادي في المغرب، نذكر منها:
– التحويل القسري للفلاح المغربي إلى عامل في مغرب الاستعمار العسكري.
– التمكين لرأسمال الدولة الكولونيالية، وبعده الرأسمال الخاص الكولونيالي، في مغرب الاستعمار العسكري.
– تبعية الرأسمال المغربي بعد الحصول على الاستقلال، بالرغم من حله لبعض تناقضات الرأسمال الكولونيالي التي بقيت عالقة في مراحله الأولى. (11)
– مشكل عدم استكمال الوحدة الترابية، وخاصة مشكل “الصحراء المغربية” الذي بقي عالقا إلى اليوم يفرض على المغرب نوعا من الابتزاز السياسي في الثروات والاستثمارات الأجنبية.
– الاستثمار الأجنبي الذي يستفيد من: البنيات التحتية المجانية، واليد العاملة الرخيصة، والتسهيل الضريبي. ما يمكنه من تحصيل فائض قيمة لن يحلم به في بلده الأصلي، نظرا للقيود الضريبية وتكلفة البنيات والمواصلات والالتزام بأداء حقوق الشغيلة (الأجور، وقت العمل، التغطية الصحية والضمان الاجتماعي).
– استغلال بعض الرأسماليين المغاربة لهذا الوضع لممارسة الفساد والإفساد عن طريق: الاستهلاك الفاحش، وضع الأموال في الأبناك الخارجية، حرمان الطبقة الشغيلة من أبسط حقوقها. (12)
لقد نسي صاحبنا كل هذه المداخل الأساسية، وأخذ ينصحنا بارتياد الحانات والدعاء الصالح لأصحابها لأنهما ينمون اقتصاد الدولة ويحلون مشكلها الاقتصادي. فليضحك المغاربة، فليضحكوا من صحافة ضحكت من جهلها الصحافة الوطنية والواعية أينما وُجِدت.
7-في جهل صاحب القول بالذهنية المغربية
أم يسمع صاحبنا بقول برنار دي شو: “لا تعاتبه، فإنه يعتقد بأن تقاليد قبيلته هي قوانين الطبيعة”؟
ألم يعلم بأن القبيلة ترعى الأحمق المجنون وتعتني به، وتطرد “الخليع” (عبد الصمد بلكبير) الذي يخالف تقاليدها؟
ألم يعلم صاحبنا بأن أحزابا وتيارات، لا يقدر هو على عشر معشار وعيها ونضاليتها، لم يلتحم حولها المغاربة وتفوق عليها النظام المغربي، لأنها خالفت “روح المغاربة” (الإسلام)، وقررت أن تنقلب على تلك “الروح” عوض أن تنطلق منها وتستثمرها لصالحها؟
8-توظيف الجهل والفاقة: آلية من آليات الاستعمار الجديد
إنه الجهل المركب، أضف إليه قلة اليد. يجعلان صاحبهما يقول كل شيء لصالح خط تحريري معين، وما الرسالة الخفية للخط التحريري؟ وما القناع الذي يختفي تحته؟ الرسالة هي إعمال التفكيك في كل ما يجتمع الناس حوله، والقناع هو “تنوير عقول المغاربة والغيرة على أوضاعهم الاجتماعية المزرية”.
فليحذر المغاربة، فليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يقال هو الحقيقة التي لا حقيقة بعدها.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتداعى فيها الجهلة على ما يجهلونه جملة وتفصيلا، فقد سُبّ الرسول العظيم بالشره الجنسي من كندا، وقد ادعى أحدهم النبوة في القرن الحادي والعشرين من الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أُيِّدت الصحافة المشبوهة (المشتبه في عمالتها للأجنبي) من السويد، وقد طالب بعضهم بالجمهورية من خارج وطنهم الأصل… تُفتَح لهم أبواب اللجوء السياسي، وتُوفّر لهم حماية الأجنبي، فيقولون كل شيء إلاّ أن يقولوا بما يجمع المغاربة على كلمة ويوحدهم في سياق معركتهم ضد الاستعمار الجديد: التبعية في الاقتصاد، التأثير على القرار السياسي وعرقلة استكمال الوحدة الترابية، تفكيك الثقافة الوطنية…
الهوامش:
(1): جاء هذا المقال ردا على مقال نشرته جريدة “كود” الإلكترونية.
(2): الجهل ليس سبّا، وإنما هو وصف للواقع الظاهر الذي نحكم عليه من خلال ما يكتبه أمثال صاحب المقال الذي نرد عليه. فلا يوصف الجهل إلا بالجهل، ومن كان جاهلا جهلا مكربا فما عليه إلا أن يتواضع للعلم والمعرفة.سيمتعض كثيرون من هذه الألفاظ التي نصف بها من خالفنا الرأي، وهؤلاء أنفسهم قد خالفهم السداد في: تحديد إشكاليتهم في وطن تخترقه الفوضى، الجرأة على تعريف الآخر بنفسه ومستواه والأجندات التي يخدمها بقصد أو بغير قصد.
(3)/ (4): راجع: مقال “دين الفطرة ودين الدولة” لعبد الصمد بلكبير، كتاب “مفهوم التاريخ” لعبد الله العروي.
(5): فراس سواح، دين الإنسان، منشورات دار علاء الدين، الطبعة الرابعة، 2002.
(6): إيريك فروم، أزمة التحليل النفسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1988.
(7): فكرة للوي ألتوسير، يناقشها موريس غودولييه في دراسة له بعنوان “النظام، البنية، والتناقض في (رأس المال).
(8):محمد عز الدين الإدريسي، درس في موضوع “عناية ملوك المغرب بالحديث النبوي الشريف”، ضمن سلسلة الدروس الحديثية، إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، إشراف “وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية”.
(9): أحمد الريسوني، الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب، دار الكلمة، الطبعة الأولى، 2018.
(10): الإسلاميون والسلفيون والكثير من فئات الشعب المغربي، كلهم في حاجة إلى مراجعة نظرتهم لوزير الأوقاف المغربي “أحمد التوفيق”. لقد نشأتُ في قلب قواعد الحركة الإسلامية المغربية، وقد كنا بشكل غير مباشر نستصغر هذه الشخصية ونزدريها. ربما كنا مستلبين بخطابة الفقهاء وتشقيقهم للكلام كلما تكلموا، فكنا نقارن الوزير إليهم. والحقيقة أنني راجعت هذه الصورة النمطية إلى درجة تغييرها كلية، وذلك بعدما أنصت للوزير بإمعان لأجده عميق الكلمة وسياسيا محنكا، وبعد الاطلاع على إنتاجاته التاريخية والأدبية (رواياته، ومنها “والد وما ولد”/ كتابه “المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر”/ تحقيقاته، ومنها: “التشوف إلى رجال التصوف” لأبي يعقوب يوسف بن يحيى التادِلي، “دعامة اليقين في زعامة المتقين” لأبي العباس العزفي، “مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة والجبال” لمحمد بن عبد الله الكيكي/ ترجمته لكتاب “النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر” لصاحبه مصطفى الشابي…)، وبعد الإنصات لدروسه الافتتاحية للدروس الحسنية… تحتاج هذه الإنتاجات كلها إلى دراسة مستقلة لمعرفة الخلفية التي تحكم أحمد التوفيق في كل ما كتبه أو ترجمه أو حققه أو ألقاه من كلمات ودروس، الأمر الذي نزعم لأنفسنا القدرة على خوض غماره في المستقبل من الأيام. عموما، الإسلاميون مطالبون بمراجعة نظرتهم للوزير أحمد التوفيق، ولن يتم ذلك إلا بمراجعة نظرية صادقة تجعلهم يقتربون منه ومن مهندسي ورجالات الدولة المغربية على مستوى التفكير والممارسة. لقد بدأت حركة التوحيد والإصلاح شيئا من ذلك، وكذلك بعض السلفيين (حماد القباج، عادل رفوش…)، إلا أن الحاجة إلى مزيد من المراجعة ما تزال قائمة…
(11): عبد السلام الموذن، الدولة المغربية: قضايا نظرية، منشورات الملتقى، الطبعة الثانية، 2018.
(12): عبد الصمد بلكبير، مقال بعنوان “حول الموقف من الرأسمالية المغربية (يدنا منا ولو كانت من جذام)”.