المصطلح القرآني في مصارف الزكاة «في سبيل الله» بين المدلول الأصلي والمُتغيِّر للآية الكريمة

18 نوفمبر 2024 17:42

هوية بريس – نبيل العسال (خبير معتمد في محاسبة زكاة الشركات)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده،

تعتبرُ الزكاة ثالث فرائض الإسلام، ولأهميِّتها قرَنها الله سبحانه وتعالى بِالصَّلاة في مواضِعَ عديدة مِن كتابِه الكريم.

وَحدَّد القرآن الكريم مَصارف الزكاة الثمانية في قوله تعالى: «إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلفُقَرَآءِ وَٱلمَسَٰكِينِ وَٱلعَٰمِلِينَ عَلَيهَا وَٱلمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَة مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم»

المدلول القرآني للفظ «وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ» في آية الزكاة، وأنَّ المراد بها الجهاد في سبيل الله:

وردت كلمة في (سبيل الله) في غالب الآيات الكريمات مقرونةً بالجهاد؛ تارةً بالنَّفس وتارةً بالمال، وتارةً بالقتال؛ مِنها قوله تعالى:

«إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ يَرجُونَ رَحمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُور رَّحِيم»

وقوله تعالى: «فَليُقَٰتِل فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشرُونَ ٱلحَيَوٰةَ ٱلدُّنيَا بالآخرة»

وقوله جل وعلا: «وَٱلمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَموَٰلِهِم وَأَنفُسِهِم»

وقوله سبحانه: «إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَموَٰلِهِم وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ بَعضُهُم أَولِيَآءُ بَعض»

وقوله سبحانه: «وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱعلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم» إلى غيرها من النصوص القرآنية المتوافرة.

وقد تواتر عن السَّلف تفسير كلمة (في سبيل الله) أنَّ المراد بها الجهاد المشروع في الإسلام؛ وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك.  وَروى ابن أبي حاتم في “تفسيره” (6/1825) من حديث زيد بن أسلم في قول الله: «فِي سَبِيلِ الله» قال: الغازي في سبيل الله.

وقال الإمام أحمد: «وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ»: يَحمِلُ مِنها في سَبيل اللَّه. “مسائل أحمد” رواية صالح (26)

وقال الطبري: “وأما قوله: (وفي سبيل الله) فإنهُ يَعني: “وفي النَّفقة في نُصرَةِ دِين الله وطريقِه وشريعَتِه التي شرَعها لِعبادِهِ بِقتالِ أعدائِه، وذلكَ هو غزو الكفار”. “تفسير الطبري” (11/527)

طائفة من أقوال المفسرين في أن قوله «في سبيل الله» أعمُّ من الجهاد.

إنَّ النَّاظر في صنيعِ أهلِ العِلم بتفسير القرآن الكريم، يقِفُ على كلام كثير لهُم في أن هذا المصطلح القرآني له دلالات أعمُّ من مفهوم الجهاد في سبيل الله، وهذه بعضها:

قال ابن الجوزي: “(وفي ‌سبيل ‌الله) قولان: أحدُهما: أنهُ الجهاد. والثاني: الطاعة“. “زاد المسير” (1/245)

وقال القاضي ابن العربي المالكي: “قوله: ‌ «وفي ‌سبيل ‌الله» قال مالك: سُبُل الله كثيرة، ولكنِّي لا أعلمُ خِلافًا في أنَّ المرادَ بِسَبيل الله هُنا: الغَزو مِن جُملة سبيلِ الله”. “أحكام القرآن” (10/431)

وقال الرَّازي: “قال المفسرون: يعني الغُزاة…وَاعلم أنَّ ظاهر اللفظ في قوله: «‌وفي ‌سبيل ‌الله» لا يوجبُ القَصر على كلِّ الغُزاة، فلهذا المعنى نقلَ القَفَّال في «تفسيره» عن بعضِ الفقهاء أنَّهم أجازوا صرفَ الصَّدقات إلى جميع وجوهُ الخيرِ مِن تكفينِ الموتَى وبناءِ الحُصون وعمارة المساجد، لأنَّ قوله: «وفي سبيل الله» عامٌّ في الكُلّ“. “تفسير الرازي” (16/87)

وقال بعض أهل التفسير: “وقوله عز وجل: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)، قيل: هُم الغُزاة. ويحتملُ: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: في طاعةِ اللَّه أنَّ كل مَن سَعى في طاعة الله وسَبيلِ الخيرات، فإنهُ داخلٌ في ذلك“. “تأويلات أهل السنة” (5/410)

وقال الثعلبي: “فَهُم الغُزاة والمرابطون والمحتاجون“. “تفسير الثعلبي” (13/443)

وقال القُشيري:” قوله جلَّ ذِكرُه: (‌وَفِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ). وعلى لِسان العِلم: مَن سلكَ سبيلَ الله وجبَ لهُ في الزَّكاة سَهمٌ على ما جاءَ بيانهُ في مسائِل الفِقه. وفي هذه الطريقة (يقصد: التفسير الإشاري): مَن سلكَ سبيلَ الله تتوجّبُ عليه المطالبات؛ فَيبذُلُ أولاً مالهُ، ثمَّ جاهَهُ، ثمَّ نفسَهُ، ثمَّ رُوحَهُ… وهذِه أولُّ قدَمٍ في الطريق”. “لطائف الإشارات” (2/40)

وقال أبو المظفر السَّمعاني: «فِي سَبِيل الله» فِي طَاعَة الله. “تفسير السمعاني” (2/322)

وقال الكِرماني: «‌وَفِي ‌سَبِيلِ ‌اللَّهِ» “نفقةُ الغُزاة وثمنُ الخيل والسِّلاح، وبناءُ المصانِع واتخاذ القناطر“. “لباب التفاسير” (ص: 606)

ونقل القرطبي عن ابنِ عمر: “أنَّهُم الحُجَّاج والعُمَّار. قال: ويُؤثر عن أحمد وإسحاق رحمهما الله أنَّهما قالا: سبيلُ الله الحجّ”. “تفسير القرطبي” (8/185)

وقال أبو السُّعود: «‌وَفِي ‌سَبِيلِ ‌الله» أي: فُقراءِ الغُزاةِ والحَجِيج والمنقطَعِ بهِم. “تفسير أبي السعود” (4/76)

فهذه الأقوال جميعها تشير إلى أن مفهوم كلمة (سبيل الله) وإن كان الأصل المجتمعُ عليه أن المرادَ بها أصلاً هو شعيرة الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، غيرَ أنه يُمكنُ أن يُقال أن المصالح العامة للشريعة الإسلامية قد تقتضي توسعة مدلول هذا اللفظ، ليشمل أنواعًا أخرى من الجهاد الشرعي الذي غايته إعلاء كلمة الله ودفع مخططات دول الكفر التي تكيدُ للمسلمين ليل نهار ولا ترقُبُ في سبيلِ إضلالِهم عن دينهِم الحقِّ وإغواِئهم إِلاَّ ولا ذِمَّة! ومن أبواب الجهاد المشروعة قديمًا وحديثًا: جهاد الكلمة، وقد قال ربنا جلَّ وعلا ي محكم التنزيل: «فَلَا تُطِعِ ٱلكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدهُم بِهِۦ جِهَادا كَبِيرا» أي جاهِدهُم بالقرآن الكريم. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. “تفسير الطبري” (19/280)

لذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “قِوامُ الدِّين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسِّنان؛ وهذا المشارك فيه كثير، والثاني: الجهاد بالحُجَّة والبيان؛ وهذا جهاد الخاصة من أتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته، وشدَّة مؤنته، وكثرة أعدائه، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ فهذا جهادٌ لهم بالقرآن وهو أكبرُ الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين، بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ ومعلومٌ أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن. “مفتاح دار السعادة” (1/271)

وقال رحمه الله: “والجهاد بالحجَّة واللِّسان مُقدَّم على الجهاد بالسيف والسِّنان، ولهذا أمر به تعالى في السُّور المكيّة- حيثُ لا جهادَ باليد- إنذارًا وتعذيراً فقال تعالى: ﴿فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾ [الفرقان: 52] وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغِلظة عليهم مع كونهم بين أظهُر المسلمين في المقام والمسِير فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التوبة: 73] فالجهاد بالعِلم والحجّة جهادُ أنبيائِه ورُسُله وخاصَّتِه من عِباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق”. “مقدمة الكافية الشافية” (ص:19)

ومن سُبُل الجهاد المختلفة التي تحتاجها أمة الإسلام وبشدَّة في هذا الزمان:

إنشاء مراكز للدعوة إلى الله تعالى على بصيرة ودعم الدعاة وطلبة العلم بإغنائهم عن الاشتغال بالمعاش، وتوفير كل ما يمكن من السُّبل من أجل ذلك، وإنشاء مراكز لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علوم الكتاب والسنة، ودعم المنابر الإعلامية الإسلامية الهادفة، عملاً بسنَّة التدافع ومزاحمةً لأهل الباطل والكفر والإلحاد وأصحاب الشهوات، قال تعالى: «وَلَولَا دَفعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَٰمِعُ وَبِيَع وَصَلَوَٰت وَمَسَٰجِدُ يُذكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ«

وقد اختار هذا القول بعض أهل العلم المعاصرين، وبه صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي. قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: “وها هُنا أمرٌ هام يصِحُّ أن يُصرف فيه من الزكاة ، وهو إعداد قوة مالية للدعوة إلى الله ، ولكشف الشُّبه عن الدِّين ، وهذا يدخل في الجهاد ، هذا من أعظم سبيل الله .فإن قام ولاة الأمر بذلك فإنه متعيِّن عليهم ، وهذا من أهم مقاصد الولاية ، التي من أجلها أُمر بالسمع والطاعة لحماية حوزة الدين ، فإذا أخلَّ بذلك من جهة الولاة فواجبٌ على المسلمين أن يعملوا هذا ، لاسيمَّا في هذه السِّنين”. مجموع فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ” (4/142).

وجاء في قرار المجمع الفقهيبجُدَّة:

“بعد تداول الرأي ومناقشة أدلة الفريقين قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:

1- نظرا إلى أن القول الثاني قد قال به طائفة من علماء المسلمين وأن له حظًّا من النَّظر في بعض الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) ، ومن الأحاديث الشريفة: مثل ما جاء في سنن أبي داود: >أن رجلاً جعل ناقةً في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركَبِيها فإنَّ الحج في سبيل الله<.

2- ونظرا إلى أن القصد من الجهاد بالسلاح هو إعلاء كلمة الله تعالى، وأن إعلاء كلمة الله تعالى كما يكون بالقتال يكون-أيضاً- بالدعوة إلى الله تعالى ونشر دينه بإعداد الدعاة ودعمِهم ومساعدتهم على أداء مُهَمِّتهم، فيكون كِلَا الأمرين جهادًا، لما روي الإمام أحمد والنسائي وصحَّحه الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم و ألسنتكم”.

3- ونظرًا إلى أن الإسلام محاربٌ بالغزو الفكري والعَقدي من الملاحدة واليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، وأن لهؤلاء من يَدعمُهم الدَّعم المادي والمعنوي، فإنه يتعين على المسلمين أن يقابلوهم بمثلِ السِّلاح الذي يغزون به الإسلام وبما هو أنكى منه.

4- ونظرًا إلى أن الحروب في البلاد الإسلامية أصبح لها وزارات خاصة بها، ولها بنودٌ مالية في ميزانية كل دولة، بخلاف الجهاد بالدعوة، فإنه لا يوجد له في ميزانيات غالب الدول مساعدة ولا عون.

لذلك كله فإن المجلس يقرر-بالأكثرية المطلقة- دخول الدعوة إلى الله تعالى وما يعين عليها ويدعم أعمالها في معنى (وفِي سَبِيلِ اللّهِ) في الآية الكريمة. “انتهى

وعليه، وبناءً على ما تقدَّم ذِكره، فإنه يسوغ القول بأنه يمكن أن يُعطى هذا الصِّنف من الدعاة إلى الله والعلماء وطلبة العلم من هذا المصرف الزَّكوي لما فيه من المصالح الشرعية التي تعود بالنَّفع على الإسلام وأهله، ولما فيه من نصرة الدِّين ودحض شُبه الكافرين وزيغ الملحدين. وبالله التوفيق.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M