المظاهرات… وحوار الحيارى

المظاهرات… وحوار الحيارى
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
-في غزة، الليل ليس مجرد عتمة، بل ستار أسود مثقوب بألسنة اللهب وأصوات الانفجارات. هناك، تتداخل صرخات الأطفال مع عواء الطائرات المحملة بالقنابل، وتتحول الجدران إلى ركام والسماء إلى رماد. هناك، مات من مات وهو يطلب فقط قطعة رغيف أو شربة ماء. وفي كل بيت، حكاية فاجعة؛ أم تبحث عن ابنها بين الأنقاض، وطفل يصرخ على جثة أبيه، وطبيب لا يجد ما يسعف به المرضى والجرحى إلا ثباته ووجوده.
-على بعد عشرة المئات من الكيلومترات، داخل مقهى صغير على هامش مدينة هادئة، جلس ثلاثة أصدقاء؛ سكون وحَراك وثائر ، يتابعون مشاهد القتل والتجويع عبر شاشة معلقة في الزاوية. كل انفجار تنقله الشاشة كان يهز قلوبهم، وكل دمعة على وجه طفل في غزة كانت كصفعة على وجوههم.
– قال حَراك ، وهو يزفر بمرارة ويمرر يده على جبينه:
هل نكتفي بالمشاهدة؟ ألا يستحق أهل غزة أن نفعل شيئا أكبر من الدعاء ثم الصمت!؟
– أجابه سكون، وهو يطيل النظر إلى الشاشة بعينين تلمعان بالدموع:
ولكن ماذا عسانا نفعل؟ حتى المظاهرات التي يخرج الناس فيها بالآلاف، أليست مجرد صيحات عابرة لا تغير شيئا!؟
– هنا، رفع ثائر رأسه بعينين تتقدان حماسة وقال:
ربما آن الأوان أن نفكر في خطوات تتجاوز الهتافات ورفع الشعارات وحرق الأعلام ثم العودة إلى البيوت.
ومن هذه الشرارة، انطلق الحوار… حوار ضاع فيه محتار، حوار الحيارى..
– حراك (المؤيد للمظاهرات الرتيبة):
أنا أؤمن بالمظاهرات، حتى لو كانت مجرد خروج ورفع شعارات ثم العودة الى منازلنا. يكفينا أن يرى العالم هذه الحشود المليونية، فهذا وحده يرسل رسالة قوية؛ هناك من يرفض الإبادة، هناك من يساند أهل غزة، هناك من يحمل الحكومات مسؤوليتها في ما يجري. ربما لا تُـغـير المظاهرات القرارات السياسية فورا، لكنها تبقي القضية حـية في وجدان الناس، وتعطي شعورا أننا لم ولن نصمت.
– سكون (المعارض للمظاهرات):
رسالة قوية!!؟ وماذا عن الشهور الماضية!!؟ ألم تخرج المظاهرات عشرات المرات، هتاف ورفع لصور القتلى والجوعى وشعار يطلق هنا وهناك… ثم يرجع المتظاهرون الى منازلهم ، فهل توقفت الحرب!!؟ هل انكسرت آلة القتل!!؟ لم يتغير شيء! المظاهرات مجرد تنفيس غضب. نعود بعدها لروتيننا وكأننا أدينا واجبنا نحو أخوة الإيمان التي تجمعنا مع أهل عِزة. إنها أشبه بصرخة في واد لا يسمعها أحد. لا جدوى منها، وأنا مقتنع بذلك.
– ثائر (الداعي للتصعيد):
كلاكما يلمس الحقيقة من جانبها فقط. نعم، المظاهرات الرتيبة لها قيمة رمزية، لكن واقع غزة الآن أكبر من بالاكتفاء بحركة رمزية. ما يحدث هناك هو إبادة جماعية لا مثيل لها في العصر الحديث؛ هولوكست حقيقية. ولهذا نحن بحاجة إلى أشكال ضغط قوية تناسب ما يقع؛ نحتاج إلى اعتصامات طويلة أمام السفارات الداعمة للعدوان مثل سفارة أمريكا، الداعم الأول والرسمي للكيان المجرم، هو ليس فقط داعما بل شريكا ومجرم حرب. كذلك نحتاج الى الوقوف طويلا أمام سفارة دولة مصر التي تقفل المعبر البري الوحيد المباشر مع قطاع غزة، الناس يموتون جوعا وهي لم تفتح بعد المعبر !!؟ نحتاج إلى حملات مقاطعة اقتصادية، بل إلى مبادرات عصيان مدني، لا بد من القيام بتحركات تحرج الأنظمة المتواطئة. حرق علم إسرائيل أو أمريكا لم يعد يساوي دمعة طفل في غزة، كما أنه لم يعد يمثل المدافعة والمقاومة المطلوبة.
– وفي غمرة لحظات الانفعال قال سكون بحدة:
أتريد أن نحاصر السفارات!؟ أتريد أن نقوم بعصيان مدني!؟ هل تدري ما تقول !!؟ هذا قد يؤدي إلى فوضى كبيرة ومفاسد خطيرة، ومواجهة مع السلطات، وقد يستغل ضدنا. أليست دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة !!؟
– رد ثائر:
التصعيد السلمي ليس فوضى، وليس دوما دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، بل لا بد من الموازنة بين المفسدة والمصلحة أيهما أشد. وأن تقف أمام سفارة، أو أن تعتصم أمام شركة تمول الاحتلال، هذا ليس عنفا ولا إرهابا، بل رسالة تقول: لن نكون متواطئين بالصمت، الصمت اليوم جريمة ورضا بالإبادة الجماعية لأخواننا المسلمين في غزة.
– قال سكون ساخرا:
هل رسالة كهذه ستغير شيئا!! لقد شاهدنا مظاهرات ضخمة في عواصم غربية، عواصم يفترض أنها تقدر شعوبها وتحترم قرارتها ليس كعواصمنا الصماء الخرساء، ورغم ذلك لم توقف حكوماتها الحرب أو على الأقل تدخل الى غزة الماء والطعام والدواء. القضية لا تُحل بالمظاهرات، بل بموازين القوة على الأرض، وللأسف لا قيمة لنا عند حكوماتنا، وهي إما عاجزة أو فاقدة للإرادة الحقيقية.
– رد ثائر بلهجة قوية:
ومن قال إننا بلا قوة؟! القوة تكمن في نشر الوعي وحسن التنظيم، في الحشد الذكي، في الضغط الاقتصادي والإعلامي. المظاهرة قد تكون البداية، لكن يجب أن تتحول إلى فعل متواصل، إلى شيء يهز صمت العالم.
– قال حراك مترددا:
ربما أنت محق، لكن الناس بالكاد يخرجون. هل تظن أننا قادرون على تعبئتهم لاعتصامات طويلة أمام السفارات أو حملات منظمة؟
– أجاب ثائر:
إذا شعر الناس أن صوتهم يحدث أثرا سيخرجون. الناس لا تتعب من التضحية، بل تتعب حين تشعر أن جهدها يذهب هباء.
-حلّ الصمت للحظة، ثم ارتفع صوت المذيع معلنا سقوط عشرات الشهداء في غزة خلال ساعات قليلة. انخفضت رؤوس الثلاثة، وتبادلت عيونهم نظرات حزينة.
– قال حراك بصوت يعتصر ألما:
أتعلمون؟ أشعر أننا مهما فعلنا، يبقى قليلا أمام دماء هؤلاء الأبرياء.
– رد ثائر، وقد خفت صوته لكنه ظل حادا في معناه:
ربما، لكن القليل إذا صدق يتحول إلى كثير. علينا أن نحاول بما نملك، لا بما نتمناه.
-وبينما أطفأ صاحب المقهى التلفاز، ساد الصمت. في أعماق المكان، كأن صوتا محايدا يتساءل باسم الجميع:
أي الطرق أقرب لنصرة غزة حقا؟ هل تكفي المظاهرات الرمزية لنقول إننا فعلنا شيئا؟ أم أن السكون أفضل من وهم الحراك؟ أم أن الحل في تصعيد سلمي منظم قد يضغط فعليا على صناع القرار؟ ما الذي ينفع أهل غزة الآن… هناك تحت الأنقاض وسياسة التجويع الممنهج والابادة الجماعية؟



