المظلوم يظلم الظالم: مفارقات مظاهرات جيل Z-212

04 أكتوبر 2025 21:31
احتجاجات شبابية بالدار البيضاء تقودها حركة GENZ212 للمطالبة بإصلاح التعليم والصحة

المظلوم يظلم الظالم: مفارقات مظاهرات جيل Z-212

هوية بريس – عبد الرحمان ورشيد 

شهدت مدن مغربية عديدة في أواخر شهر شتنبر 2025م وبدايات شهر ربيع الثاني 1447هـ مظاهرات قادها جيل جديد، رفع مطالب اجتماعية واقعية عملية، على رأسها إصلاح التعليم والنهوض بالصحة. غير أن المفارقة المؤلمة أنّ من وُّجّهوا لقمع هذه المظاهرات هم أنفسهم أبناء الشعب، الذين يعانون المشكلات نفسها التي خرج المتظاهرون من أجلها. وهكذا يصبح المشهد وكأن المظلوم يظلم المظلوم، والمقموع يقمع المقموع.

من القرآن والحديث: تحذير من إعادة إنتاج الظلم

يذكرنا القرآن الكريم بحقيقة كونية إنسانية وهي “حقيقة التّداول” بين أحوال الناس، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}.

فالضعيف اليوم قد أصبح قويًّا غدا، لكن إذا لم يتعظ من تجربة القهر التي مرّ بها، ويسدّ الثغرات التي كان يُقهر عبرها بعد أن أصبحت له قوة وسلطة، فإنه يعيد إنتاج نفس الظلم على غيره.

وهذا أمر مشهود وملموس، فخذ على سبيل المثال ذاك الموظف الذي يوجد في مكتبه الإداري، لا شك أنه مرّ بمراحل مورس عليه فيها الظلم والقمع والتهميش حتى بلغ منصبه. لكن بدلا من أن يعتبر اعتبار أولي الألباب فيُصلح الخلل، ويعمل على إنجاء أمة ستأتي من بعده لكي لا تمرّ بنفس ما مرّ به  من محن وصعوبات ويدلل وييسر الطرقات والعقبات لهم، نجده يفرغ كبته بالبطش والتضييق على الناس بالظلم والقمع بأشد ما مورس عليه. وكذلك الأمر بالنسبة لرجال الأمن، وكذلك الأمر بالنسبة للمتظاهرين على حد سواء.

فظاهرة “الفرعونية” ليست محصورة في شخص ولا في زمن ولا في جغرافيا، بل هي منهج حياة لأُناس لهم نفس الفكر، نفس السلوك، نفس الحركة العملية في الواقع التربوي، السياسي، الاقتصادي، الأمني، الاجتماعي، الرياضي…، فهناك فرعون فكري اعتقادي، وفرعون نفسي سلوكي، وفرعون عملي واقعي.

وأما في الحديث الشريف فإن رسولنا الأكرم ﷺ  قال: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا: ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: (تحجزه أو تمنعه من الظلم فذلك نصره).

فالتكافل يدا بيد من أجل حماية المظلوم من أن يتحول إلى ظالم، هي أسمى أشكال النصرة، قبل أن يستفحل البلاء.

وقد شبه النّبي ﷺ المجتمع بسفينة يركبها الجميع، فإن أخذ العقلاء على أيدي الطائشين حمقى العقول، مضطربي النفوس، منفلتي الحركة =نجوا ونجوا جميعا، وإن تركوهم يخرقون السفينة هلكوا وهلكوا جميعا.

من 2011 إلى 2025م: المفارقة المؤلمة

تتعمق المفارقة حين نعلم أن من يواجهون اليوم مظاهرات جيل Z بالهراوات والدّهس وتعرية المرأة من حرمتها…، كانوا قبل أربعة عشر عاما ضمن المشاركين في احتجاجات 20 فبراير 2011م، التي رفعت نفس المطالب.

لقد انتقلوا من موقع المطالبين بالحقوق إلى موقع المدافعين عن النظام القائم، في دورة مؤلمة من إعادة إنتاج الظلم، فالمظلوم بالأمس صار جزءً من آلة القمع اليوم.

نعم هناك من يفعل أفعال القمع وهو غير راض، لأنه في الأخير هناك “النفس اللوامة” في هذا الضمير الإنساني، ولكن من لامته نفسه امتنع عن فعل ذاك الفعل القبيح وإلا فإنه يقتل “جهاز اللوم” هذا ويصبح الأمر عنده عادي، يبرره بأعذار أقبح من ذنب، كأن يقول: “وماذا أفعل؟ فأنا عبد مأمور”!!

من المغرب إلى سوريا: مأساة متكررة

وليس المغرب استثناء؛ فالتجربة السورية قدّمت صورة أكثر مأساوية، خرج الناس عام 2011م مطالبين بمطالهم المشروعة، فإذا بهم يواجهون القمع الشديد بأدي أبناء بلدهم، من جنود وضباط نشأ أغلبهم في بيئات فقيرة مسحوقة، ومع طول الصراع، انقسم المجتمع وتناحر، حتى غدا المظلوم يقاتل المظلوم، والمقهور يذبح المقهور، فيما بقيت جذور الاستبداد والفساد أصل البلاء.

هذا التشابه بين المغرب وسوريا -مع اختلاف حجم العنف والنتائج- يكشف أن المشكلة ليست في الأفراد وحدهم، بل في البنى التربوية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والإدارية… التي تعيد إنتاج القمع من الداخل، وتُحوّل المقهورين إلى أدواته.

قراءة خلدونية للواقع:

لقد سبق ابن خلدون أن نبه إلى مثل هذه الدورات في المقدمة، ففي فصل: “أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب“، يبين أن العصبية العارية من الضابط الديني أو الأخلاقي لا تُنتج إلا الخراب. كما قال أيضا: “إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية“، أي أن مجرد القوة أو العصبية لا تكفي لبناء ملك مستقر، بل لا بد من دعوة حق توحد الناس وتضبط شهواتهم.

وفي فصل آخر قال: “إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك“، حيث شرح طبيعتهم وبأنهم ميالين إلى التنافس وهذا ما يجعلهم أسرع إلى التنازع إذا غابت عنهم الضوابط الشرعية والأخلاقية، فإذا نبذوا الدين انقطعت عنهم أسباب الملك وسرعان ما تنفرط دولتهم.

ثم يقرر في فصل جامع: “أن الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين، إما من نبوة أو دعوة حق“، أي أن الدولة الواسعة المستقرة لا تقوم إلا على أساس ديني جامع، يرفع الناس من الانشغال بمصالحهم الجزئية إلى مقصد أعلى يوحدهم.

فحين يغيب الرابط الديني أو الأخلاقي الجامع، تتحول العصبية إلى أداة ظلم، فيُظلم المظلوم، ويُقمع المقموع.

وحين تُرفع المطالب الاجتماعية العادلة دون إطار جامع يضبطها، تبقى عرضة للتفكك أو التناحر أو الاحتواء.

إن الاعتبار من هذا أن الطريق إلى إصلاح حقيقي لا يمر فقط عبر رفع الشعارات، بل عبر بناء دعوة حق جامعة، تعصم الناس من إعادة إنتاج الظلم والفساد، وتمنحهم أفقا يتجاوز مصالحهم الجزئية إلى مشروع أمة يرفع القهر عن الجميع.

لذلك أنا لا تخدعني الشعارات، فليست الألفاظ البراقة ولا الهتافات العالية هي ما يصنع نهضة الأمم أو يقيم العدل بين الناس. إنما الذي يهم حقا هي الأصول التي تنبثق منها تلك الشعارات، والأسس التي تؤسس عليها، فإذا كانت الأصول متينة منبثقة من الوحي الرباني، استقامت معها المسيرة، وتبتت أمام الفتن. أما إذا كانت واهية، منقطعة عن السماء، فإنها لا تلبث أن تتحول إلى سراب خادع.

ولنا في القصص عبر يا أولي الألباب، فقد قص الله تعالى علينا خبر بني إسرائيل، لنتعلم من مواقفهم دروسا باقية. لقد طلبوا الحرية والكرامة والعدالة… وغير ذلك من المطالب الاجتماعية الواقعية، وهي مطالب مشروعة لدى كل الأمم الإنسانية، لكنهم حين لم يقيموها على أصول الوحي الذي جاء به موسى عليه السلام انحرفت بهم البوصلة، فما لبثوا أن تركوا نبيّهم، وارتموا في أحضان العجل الذي لا يملك إلا خوارا. قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ}.

وهكذا هي الشعارات حين تبنى على غير هدى الله: أصوات خاوية، وضجيج بلا هداية.

فعلى الشعارات الواقعية التي ترفع أن تكون مبنية على أصول ديننا الحنيف، وكذلك حركتنا في الواقع، لكي تتحقق العبودية لله وحده وتتحرر النيات من عبادة الطاغوت.

وقد ترك لنا ربعي بن عامر فلسفته المبني على الأصول الإسلامية: “جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد“.

تطبيق خلدوني على واقع المغرب:

إذا حاولنا أن نقرأ مظاهرات جيل Z في المغرب اليوم من خلال نظريات ابن خلدون، سنجد أن ملاحظاته تنطبق بدقة على المشهد:

-فعندما قال: “إن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب“، وهذا ما نراه حين تتغلب السلطة الإدارية أو الأمنية على المطالب الشعبية العادلة، فبدل أن يُستثمر هذا التغلب في البناء والإصلاح، يتحول إلى استنزاف للطاقات، فتتعطل مرافق التعليم والصحة ويتعمق الخراب الاجتماعي.

-وعندما قال: “العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية“، فهذا ما يفسر هشاشة المطالب الحالية؛ لأنها تفتقر إلى الرابط الجامع الذي يرفعها من مجرد أصوات احتجاجية إلى مشروع حضاري موحد. فالمطالب الاجتماعية مهما كانت عادلة تبقى عرضة للتفكك أو الاحتواء إذا لم تبنى على أساس من الدين أو القيم الجامعة.

-وقد بين: “أن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك“، فالتجربة تؤكد أن المظلوم بالأمس حين يتسلم موقع السلطة، يمارس الظلم نفسه الذي عانى منه. وهذا ما نشهده في انتقال كثير من المشاركين في احتجاجات 2011م إلى مواقع الدفاع عن النظام وقمع احتجاجات 2025م، وكذلك نرى ممارسة الظلم من قبل المتظاهرين من جيل Z يوقعونها على مظلومين من مختلف أطياف المجتمع كما حدث من سرقات ومن تعد على الناس في الحافلات ومن تخريب للممتلكات العامة والخاصة… وهذا له مقدمات أدت لهذه النتائج من بينها هذا التجهيل من خلال “سدّ التّبليغ وفتح التّفسيق” -كما تحدثنا عنه في مقل لنا سابقا-، فالطبيعة التنافسية هذه تفرز الاستبداد إذا غاب عنها الضابط الشرعي والأخلاقي.

-وأخيرا قرر: “أن الدول العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها الدين، إما من نبوة أو دعوة حق“، وهذا بحق درس بليغ، إذ إن الاستقرار والعدل لا يمكن أن يتحقق بمجرد قوة العصبية أو صخب الشارع، بل يحتاج إلى دعوة حق جامعة تؤطر الناس في مشروع نهضوي يرفعهم فوق مصالحهم الفردية ويعصمهم من إعادة إنتاج الظلم.

ختاما:

إن المظلوم إن لم يُردع بالعدل والحق، صار ظالما على الآخرين، لذلك وجب رفع المطالب على دعوة حق جامعة، تؤطر النفوس وتجمع الكلمة، تقوم على:

الضابط الديني والأخلاقي: ليعرف كل فرد حدوده وحقوق غيره، بحيث تؤصّل الحقوق والواجبات على قواعد شرعية واضحة، ترفع الأفراد فوق مصالحهم الجزئية.

الوعي الجماعي والتربوي: ليصبح الإصلاح بالعلم والفهم لا بالقهر.

الإطار المؤسسي العملي: ليمنع الاستبداد ويضمن مشاركة الجميع في القرار.

فإذا اجتمعت هذه الركائز، صارت الأمة كركاب السفينة الآمنين داخلها من هيجان أمواج البحار، وصواعق الرياح، فلا يظلم مظلوم ولا يقمع مقموع، ونصل إلى صراط مستقيم بإذن الله تعالى: {ومن يعتصم بالله هدي إلى صراط مستقيم}.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
19°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة