المغاربة بين قيم تمغرابيت وبؤر السواد في زمن الجائحة
تحتفظ ذاكرة الإنسان بمصطلحات لفترات زمنية طويلة وقد ترافقه مدى العمر حسب ما تتركه من آثار إيجابية أو سلبية في نفسيته، فلازال الأجداديذكرون البعض من تفاصيل أحداث مِؤلمة ظلت عالقة في ذاكرتهم الجماعية، إذ تتكرر على مسامعنا أحيانا تفاصيل غريبة حول ما عرف لدى المغاربة ” بعام البون” أو “عام الجوع” خلال القرن الماضي،دون استثناء بعض الأزمات الصحية التي مر منهاالمغرب من قبيل الكوليرا والطاعون (الموت الأسود) وغيرهم من الأوبئة .
وللقرن الواحد والعشرين نصيبه من النكبات، جاءدور جيل الأيباد ليترك بصمته في مواجهة الوباءوسيشهد تاريخ على ذلك دون شك، قد يتبادر إلىأدهاننا سؤال يحيلنا إلى إجابات نسبية و لا متناهية لما الآن ؟
في سياق تهيمن فيه نزعت التمركز حول الذات شاء فيروس أن يقدم لهذا الجيل دروس دعم فيالإنسانية، في سياق تتصارع فيه التفاهة مع المثاليةوتنتصر الذاتية عن الغيرية ويحل الفرد محل الجماعةوالتصنع مكان العفوية، تناقضات ستجعل الدرسقاس، والثمن المؤدى باهضا إلا أن مستقبل المغاربةرهين بمدى استيعاب الدرس، فالأوبئة خلال القرونالماضية كانت رحيمة إلى حد ما بالمغاربة وذلك نظرالانحصار الوباء في مناطق دون أخرى، بسببانعزال القرى الناتج عن غياب الطرق المعبدة حسبما تداوله علماء التاريخ، إلا أن العولمة والتطورالتكنولوجي تحالفتا ضد الإنسان وأصبحت الأوبئةعابرة للقارات في فترات زمنية وجيزة.
ها هي جائحة القرن تنهك الجسم الاقتصاديلدول رائدة على مستوى المجال، كما بعثرت الأوراقالسياسية للبلدان ذات القرار، ولازال سيناريو مصيرالدول النامية غير واضح المعالم، إلا أن المغرب وعلىسبيل التميز كان ولازال يخطو خطوات استباقيةلحماية ثروته البشرية وتجاوز المحنة بأقل الخسائر،بقرارات حكومية إلزامية متتالية يتقبلها البعض منالشعب ويرفضها البعض الآخر كل حسب رأسمالهالثقافي والمالي. أزمة تركت آثارها في حياة المغاربةخاصة في أوساط الفئات الهشة من المجتمعالمغربي بحيث أوقفت حالة الطوارئ الصحية نبضالحياة في العديد من المجالات وأغلقت مصادرالرزق للعديد من الأسر فنداء” بقا فدارك ” لميستثني النادل والعامل اليومي والإسكافي كما لميستثني فلاح الذي يعيش على ما يجود به حقله منمنتوجات فلاحية مخصصة لغرض البيع، إنه تحولفي نمط العيش بين شمس عشية ونسمات فجر.
الإنسان اجتماعي بطبعه إلا أن الوباء شاء أنيضع خطوط حمراء لاجتماعيته، إنه خروج عنالمألوف وتغيير فجائي في طبائع الأفراد(الهابتوسالاجتماعي) فتغيرت الأولويات وتوحدت الأمنياتوسار الكل على نفس الخطوات، وهذا ما حتم سطوعنجم علماء النفس وعلماء الدين واختصاصيالتغذية وكذلك سطوع نجم خبراء التنمية الذاتية … لتصير علوما تحت طلب المجتمع، و بالرغم منالقراءات السوداوية للوضع الراهن الذي يعيشهالمغرب والعالم إلا أن الجائحة جعلت جانبا من المحنةمنحة كشفت عن المعدن الأصيل للمغاربة، تجندالطبيب والأستاذ ورجل الأمن والإعلامي والفاعلالجمعوي والسياسي والاقتصادي… ليحاربوا علىجبهة واحدة ضد الجائحة وسيشهد التاريخ عن ثانيثورة للملك الشعب ثورة (ثورة الملك محمد السادسوشعبه).
الملك الذي كان له السبق التضامني كالمعتاد،دشن مشروعه الإنساني بإنشاء صندوق خاصبالتدبير الاقتصادي للجائحة و سار المغاربة علىخطاه، بدءا ببعض مسؤولي الدولة وكبار أغنياءالبلاد، مرورا بجمعيات المجتمع المدني وبعضمؤسسات القطاع الخاص وصولا إلى إسهاماتالمواطن البسيط .
أزمة قامت بتقوية مناعة قيم تمغرابيت لدىالمغاربة منذ المرحلة الأولى من تفشي الوباء فيالبلاد مواطنون وحدتهم وحدة الانتماء، وحدة المركب،ووحدة المصير، وقفو وقفة رجل واحد ضد العدوالخفي، تهافت الكل على الفعل التضامني فمن لميستطع سبيلا للمساعدة المادية اختار أن يكونوسيط خير، فتداولت على مسامعنا قصص إنسانيةتضامنية من إبداع آثار الجائحة، أبطالها مواطنونمغاربة كانت دوافعهم للتضامن دوافع إنسانيةمحضة، جسدوا من خلالها روح تمغرابيت في أبهىتجلياتها كل حسب قدرته وخبرته ومجال اشتغاله،نقلت الشاشة الصغيرة وكذا مواقع التواصلالاجتماعي نماذج لأعمال تطوعية نقشت في ذاكرةالمغاربة بأحرف من ذهب .
كما لن ينسى المغاربة جميل أبناء وطنهم نجومالمعركة الذين دخلوا التاريخ من بابه الواسع، سيتذكرالمغاربة المقولة الشهيرة للقائدة حرية “غبر غبر ناسكتموت ونتا كتكركر” كما لن ينسوا مشهد القائدالذي درف دموعا وهو يخاطب أبناء وطنه بضرورةلزوم بيوتهم، و سيتذكر المغاربة الأستاذة التي تابعتدروسها مع تلاميذها عن بعد وهي تصارع مرضكورونا داخل المستشفى، قوة هذه المشاهد الإنسانيةلن يضعفها مرور الأعوام والأجيال .
ومما لا شك فيه أن الذاكرة الجماعية للمغاربةستحتفظ أيضا بمجهودات الدولة لتحقيق الأمنينالصحي والغذائي لمواطنيها، إنه تجديد للعقدالاجتماعي، تجديد لثقة المواطن المغربي فيمؤسسات الدولة كما أنها فرصة لتصحيح تمثلاتالمواطن لمصطلح “المخزن “وذلك نظرا للعودة القويةلأدوار أعوان السلطة (الشيخ، لمقدم) وتعرف المغاربةعن قرب على أدوار ” القياد” في تدبير الأزماتالمحلية وذلك من خلال نزولهم إلى الميدان في إطارالحملات التمشيطية والتضامنية والتوعوية التي كانت الشوارع والأزقة والأحياء مسرحا لها طيلةمرحلتي الحجر الصحي، اعتاد المواطن علىالتعامل مع رجل السلطة داخل مقر عمله أو منخلال التواصل النادر في الأماكن العامة إلا أنالأزمة شاءت أن تتيح للمواطن فرصة لتعرف عنقرب على مهام مختلف أجهزة السلطة في سياقتسمو فيه روح المواطنة و قيم التآخي والتعاون .
الكل يساعد الكل والهدف المنشود تخطي الأزمةبأقل تكلفة، أزمة كورونا أعادت إحياء طقستضامني من الموروث الثقافي للمغاربة كان فيطريقه إلى الزوال، إنه طقس التويزة في حلة جديدة،العطاء والتعاون من أجل المساعدة لا من أجل الربحالمادي، ظرفية قد تكون مؤقتة لكنها ذكرتنا بمميزاتالمجتمع الآلي القروي حيث تهيمن مصلحة الجماعة،كما أنها رسخت لدى الأفراد المفهوم الحقيقي للعملالاجتماعي وأعادت الاعتبار لجنود هذا المجال الفاعل الجمعوي ليس ذلك الشخص الذي يلهثوراء عدسات الكاميرا لتوثيق بعض إخفاقاتهالمتواضعة، أو ذلك الفاعل الجمعوي الشبح الذييظهر بشكل موسمي لجمع قوت عامه بل إن الفاعلالجمعوي هو ذلك الشخص القادر تسخير مؤهلاتهوقدراته ومهاراته الشخصية في خدمة الآخر وهوجندي الخفاء في عز الازمات لا يشتغل رياء ولاينتظر جزاء.
كما تم تصحيح التمثل لفئة أخرى عانت نوع منالإقصاء الاجتماعي وهم عمال النظافة (مالين الزبل) دلالة العبارة تحيل إلى عكس معناها في مخيلةالمجتمع المغربي، وحدة المعاناة حققت نوع من العدلالاجتماعي ولو كان مؤقتا من حسنات كورونا أنهاجعلت المغاربة يعيدون تريب أوراقهم على جميعالمستويات لكن ذلك لا يحيل إلى تحقق المدينةالفاضلة فكل مائدة تسع قنينتي الحليب والنبيذ معا.
مغاربة وبؤر السواد في عز الجائحة
خلال فترة دخول الوباء إلى المغرب كانت أزمةكورونا موضوع تنكيث وسخرية لدى المغاربة بحيثتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات تتناول موضوع كورونا في قالب فكاهي، كما أنها كانت موضوع تنكيث في تجمعات الأفراد فيالأماكن العامة (المقاهي، وسائل النقل، الدكاكين …) كان الأمر يبدو وكانه جهل وقلة الوعي بخطورة الوباءإلا أن رضى المحاسني – أحد اختصاصي علمالنفس الاجتماعي– فسر من خلال إحدى لقاءاتهالتلفازية أن التنكيث المبالغ فيه حول موضوع كوروناما هو إلا تعبير عن خوف جماعي من خطورة الوباءورفض ضمني لفكرة، والجدير بالملاحظة هو اختفاءالتنكيث تدريجيا بدءا من المرحلة الثانية حيث ظهرتحالات محلية في جميع أنحاء المملكة وأصبح هناكنوع من التعايش مع الفكرة وتقبلها، لكن ذلك لميغني البعض من المغاربة عن الوقوع في الهفواتلتصير مآسي قوم عند قوم تجارة وأرباح، بحيثشهدت مرحلة ما قبل حالة الطوارئ الصحية ارتفاعأسعار تذاكر وسائل النقل وكذا المواد الغذائية دوناستثناء أسواق الخضروات خلال نفس المرحلة.
المحنة كانت حقل خصب لتحقيق أرباح كل منمجاله فلا يمكن غض النضر عن قنوات يوتوب التياتخذت كورونا موضوع الساعة و مادة خام لتحقيقأكبر عدد من المشاهدات وبتالي أرباح إضافية فيوضعية استثنائية نموذج قناة ” أمي نعيمة” قنواتكانت عبارة عن بؤر جهل إلكترونية تم توقيفها ووضععقوبات صارمة في حق المؤثرين الذين كانوايسبحون ضد التيار ويشكلون خطر على الأمنالصحي للمغاربة .
وما كان يثير القلق العام أيضا هو تفشيالإشاعة خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي إلاأنه تم تدارك الأمر نسبيا بفضل مجهودات الإعلامالرسمي حيث تم إنتاج حملات إشهارية توعوية،بالإضافة إلى أن القنوات التلفازية المغربية خصصتبرامج لتواصل المباشر مع المواطن والإجابة علىأسئلته. وللإشارة حققت هذه البرامج التواصليةالتلفازية نجاحا ربما لم يكن منتظرا نموذج برنامج“أسئلة كورونا” على القناة الثانية، وهنا تجدرالإشارة إلى الدور الفعال الذي لعبه الإعلام الرسميفي فك الغموض عن المرحلة، بحيث كان ولازالالمواطن يتلقى مستجدات الأوضاع الصحيةوالاجتماعية والاقتصادية من المنابر الرسمية التيتستند في معطياتها على بلاغات وتوجيهات الجهاتالمختصة.
لكن رغم هذه المجهودات والوعي الذي عبر عنهالمواطنون المغاربة في بداية المرحلة الأولى من الحجرالصحي، إلا أن الاستهتار عاد من جديد بعد أناقترب المغرب من تخطي مرحلة الخطر سلوكيات لامسؤولة، استسلام سابق لأوانه، وربما هو تعبير علىضرورة التعايش مع الوباء إذ تتحكم في هذهالتجاوزات عوامل متعددة منها ضعف الجانبالتربوي الأخلاقي لدى بعض الفئات بحيث تداولتمواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لتجاوزاتلا عقلانية نموذج مقطع مباراة لكرة القدم بإحدىالأحياء الشعبية دون اكتراث للأمن الصحي العام،نهيك عن بعض الاسواق التي استأنفت عملها منتلقاء نفسها والتي تشهد اكتظاظ خاصة في الفتراتالمسائية خلال أيام شهر الصيام ودون أي احتراممسافات الأمان بين الافراد .
كما تكررت أمام أعيننا مشاهد طوابير من المواطنين لاقتناء بعض الاغدية والحلويات الموسمية(الشبا كية، الباكيط …) والتي تباع بشكل عشوائيفي الاسواق والشوارع ولم يتم استثناءها من مائدةالإفطار رغم ما قد تحمل من خطورة على صحةالافراد وكأن المغربي يحتكم لسلطة البطن أكثر منسلطة العقل، تجاوزات ستجعل المغاربة يؤدون ثمندروس لم يستوعبوها، تجاوزات تجعلنا نفقد الأملفي احتمال تغيير إيجابي في قيم ما بعد الأزمة.