التطورات الأخيرة في ملف النزاع حول الصحراء، تشير إلى تغير جوهري في موازين القوى لصالح المغرب، بل تؤكد بأن الأمور تسير في اتجاه تغيير قواعد الاشتباك، وأن المغرب يتجه فعليا، وربما بدعم موريتاني، إلى إخراج الطريق الرابط بين الكركرات وموريتانيا بالمطلق من دائرة المناطق العازلة.
البعض يركز على تكتيكات المغرب لإيقاع جبهة البوليساريو في الفخ، ومن ثمة، إقناع المجتمع الدولي، بل وإقناع موريتانيا أولا، أن تأمين حركة المسافرين والسلع، فضلا عن مصلحة موريتانيا القومية، باتت مرتبطة بتأمين المغرب لمعبر الكركرات، وإشرافه الكامل على الطريق الرابط بينه وبين الحدود الموريتانية.
والحقيقة أن هذا التحليل وجيه، فجبهة البوليساريو ارتكبت خطأ كبيرا، حينما اعتقدت أن عرقلة حركة التجارة والمسافرين من هذا المعبر، وتعريض الأمن الغذائي الموريتاني للخطر، يمكن أن يقنع المجتمع الدولي، وموريتانيا، بأن مصالح التجارة الدولية، والأمن الغذائي الموريتاني، باتا مرتهنين بجبهة البوليساريو. ولذلك، أثمرت سياسة ضبط النفس المغربية، المشفوعة بالتوجه إلى المجتمع الدولي، ومخاطبة الأمين العام الأممي للقيام بدوره، وخلقت الحجة للتحرك العسكري المحدود في الزمن والهدف، بل اكتسبت تأييدا غير مسبوق من قبل الدول العربية والغربية، وارتياحا كبيرا من طرف موريتانيا، ولم تصدر أي إدانة أو استنكار للتدخل العسكري المغربي، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كسب المغرب دبلوماسيا، بازدياد وتيرة التمثيلية الدبلوماسية في المناطق الجنوبية.
الحيثيات التفصيلية، تؤكد صحة هذا التحليل ووجاهته، لكن، ما يغيب عنه هو الأبعاد الاستراتيجية والسياسية في الصراع، بل الأبعاد الجيوستراتيجية، وأيضا تحولات السياسة الدولية.
ينبغي أن نستحضر متغيرين اثنين، ساعدا المغرب في التعامل مع الحدث ببعد نظر استراتيجي. أولهما، الأزمة المزدوجة التي تمر منها الجزائر: أزمة السياسة، وأزمة الاقتصاد. فالجزائر لا تعيش سياسيا على إيقاع البحث عن خيار لإخماد حراك الشارع وتداعياته فقط، وإنما تعيش أزمة أخرى أكبر. فكل المسار الذي قامت به، من أجل إخماد الحراك، والذي أثمر العملية الانتخابية، ثم اختيار الشخصية السياسية التي تحافظ على التوازنات بين نخب الحكم السياسية والعسكرية، عاد كله إلى نقطة الصفر، بسبب المصير الصحي المجهول لرئيس الجمهورية، وأنه بدلا من أن يتم ترتيب الوضع السياسي بعد أزمة التعديلات الدستورية، سيتم إعادة اللعبة من أولها. أما على واجهة الاقتصاد، فالأزمة تأخذ بعدين اثنين، أزمة انخفاض فاتورة الغاز والبترول، وما تكبده الاقتصاد الجزائري من خسائر ثقيلة، ثم تحويل إسبانيا وجهتها عن الغاز الجزائري، واتجاهها إلى سوق الغاز الأمريكي الأرخص. وهو الوضع الذي أضعف الجزائر اقتصاديا، وسياسيا أيضا، إذ خف وزنها في علاقتها بالاتحاد الأوروبي، وبدأت تفقد القدرة على منافسة المغرب في التسلح، وتضطر إلى تخفيض فاتورة الدعم لجبهة البوليساريو، أو على الأقل، تضعف عندها القدرة لإسناد الخيار الأسوأ في إدارة الصراع حول الصحراء.
على أن الأمر، في جانب تغير الأبعاد الاستراتيجية في الصراع، لا يتوقف على الجزائر، الدولة الحاضنة لجبهة البوليساريو، وإنما يشمل الديناميات الداخلية في الجبهة نفسها، إذ وصل الصراع بين أجنحتها حدا صار معه من المتعذر الحديث عن التماسك الداخلي، لاسيما بعد نقص الدعم المالي الجزائري، الذي كان يوظف لتقوية التحالفات الداعمة للنخب المتنفذة في جبهة البوليساريو.
التقييم، أن البوليساريو تعيش حالة من الانقسام الشديد، الذي أوصلها إلى الأفق المسدود، أو أفق اليأس ومحدودية الخيارات، ولذلك، انتهج المغرب سياسة ضبط النفس معها، وأخذت هذه السياسة مدى طويلا، قرابة شهر، تحمل فيها المغرب خسائر كبيرة، من أجل أن يخلق الشرط الذي به تتغير قواعد الاشتباك.
دليل هذا التغير، هو سياسية الهروب إلى الأمام التي انتهجتها الجبهة، معلنة التحلل من الاتفاق الأمني والعسكري، وما يعنيه ذلك من دق طبول الحرب، وهي تدرك أنها غير مستعدة بالمرة لهذا الخيار، بل تدرك أن المغرب ينتظر أن تقع في فخه.
وإذا كانت الأبعاد الاستراتيجية والسياسية، صبت في اتجاه المغرب، فإن الجغرافية السياسية، هي الأخرى كانت في صالحه، لأن الصراع هذه المرة، يتم في منطقة، تبتعد كلية عن الجزائر، وتحددها بشكل أساسي، العلاقات المغربية الموريتانية.
المغرب استثمر بذكاء المتغيرات التي حصلت زمن التدبير الدولي لجائحة كورونا، واستثمر أيضا المتغيرات السياسية، فالمعادلة السياسية تغيرت في موريتانيا، وقيادتها السياسية، لم تعد تتحمل الاستمرار في سياسة الحياد إلى الحد الذي يضر بالمصالح القومية، لاسيما وأن سلوك البوليساريو في منطقة الكركرات، كاد أن يعرض الاستقرار السياسي والاجتماعي للاهتزاز، وهو ما دفع بموريتانيا إلى الانعطاف للموقف المغربي، وتبني مفهوم جديد للحياد، يدخل الجغرافية السياسية والمصلحة القومية ضمن اعتباراته، أي لا حياد في المنطقة التي تعتبر شريان الحياة والغذاء والتجارة، والتي تحكمها الحدود المغربية الموريتانية.
البعد الآخر الذي تم استثماره، هو تحولات السياسة الدولية، وبروز قناعة للمغرب من خلال مشاهداته لعدد من التطورات، أن المجتمع الدولي، لم يعد قادرا على الاستثمار في مناطق النزاع، لا حلا ولا توسطا ولا توظيفا، فما وقع في شرق المتوسط، وفي ليبيا، وفي ناغورني كاراباخ، يعزز القناعة، بأن النزاعات الإقليمية بدأت تأخذ مسارا أخرى من الحل، يعتمد على الحوار السياسي بين الأطراف المعنية، أو القوة العسكرية، أو التموقع الاستراتيجي القوي.
دليل ذلك أن الأمين العام للأمم المتحدة، لم يفعل شيئا بعد سيل من التظلمات المغربية من عرقلة البوليساريو لحركة السلع الدولية في معبر الكركرات، وأصبح أشبه ما يكون بصندوق بريد، يستمع إلى الأطراف دون أن تكون له القدرة على التصرف.
دليل ذلك أيضا، أن أمريكا انشغلت بصراعها الانتخابي، وتحصين نموذجها الديمقراطي، وهي في عز هذا الانشغال تمضي في تقليص سياستها الانسحابية في العديد من المناطق، كما أن القوى التي كانت تتمدد إقليميا (المحور الإماراتي السعودي المصري) أضحت مقتنعة أن هزيمة ترامب، الداعم لفوضاها في المنطقة، تعني الحاجة لتغيير سياستها ونزوعها الإقليمي، ولذلك، اضطرت الإمارات أن تغير بشكل مفصلي موقفها من الصحراء، فاتخذت قرار إحداث تمثيلية دبلوماسية لها في المناطق الجنوبية. كل الاعتبارات الاستراتيجية والسياسية والجيوستراتيجية، فضلا عن تحولات السياسة الدولية، تصب في صالح المغرب، والراجح أن الإعلان عن مشروع ميناء كبير في الداخلة، وبناء مسجد في الكركرات، وتسريع عملية تزفيت الطريق الرابط بينها وبين موريتانيا، يعني انطلاق مسار الإعمار في المنطقة، وتحويلها على منصة استراتيجية لعبور السلع والبضائع الدولية إلى إفريقيا. القدس العربي