المفكر الزائف: حين يصبح الطعن في الدين طريقًا إلى الشهرة

07 أغسطس 2025 09:35

المفكر الزائف: حين يصبح الطعن في الدين طريقًا إلى الشهرة

هوية بريس – عبد العلي حمداوي الزمزامي

في زمنٍ تتداخل فيه المفاهيم وتُخلط فيه الشعارات بالتوجهات، برزت ظاهرة “المفكر الزائف” كأحد أخطر أدوات التأثير الثقافي في المجتمعات المحافظة عموما وفي مملكتنا الحبيبة على وجه الخصوص. لم يعد اللقب في الغالب يُمنح لمن يُنتج معرفة أو يُسهم في بناء وعي، بل لمن يجرؤ على الطعن في الثوابت، ويُجيد إثارة الجدل حول المقدسات، ويُقدَّم للجمهور على أنه “مستنير” أو “محرر للعقول” أو غير ذلك من الألقاب التي يرجى منها أن تمنحه القداسة لفكره. تحت غطاء الحرية الفكرية، يتحول التشكيك في الدين إلى سلّم للترقية أي ترقية، وتُفتح المنابر لمن يخدم أجندات خفية تهدف إلى تفكيك الهوية من الداخل. فهل نحن أمام فكرٍ حقيقي، أم أمام صناعة دعائية تُعيد تشكيل الوعي وفق نماذج مستوردة؟ هذه الأسئلة تفرض نفسها بقوة في مواجهة خطابٍ يتستر خلف ما يتستر به، لكنه يفتقر إلى المنهج، ويُهدد الثوابت باسم التنوير.

في ظل التحولات الثقافية والاجتماعية التي يشهدها العالم العربي عموما، ظهرت إلى السطح هذه الظاهرة التي تستحق التوقف والتحليل، وهي ظاهرة من يُطلق عليهم لقب “المفكر” دون امتلاكهم أدوات الفكر العلمي أو المعرفي. لقد أصبح هذا اللقب يُمنح أحيانًا بناءً على الحضور الإعلامي أو القدرة الإنشائية، لا على أساسٍ معرفي أو منهجي، مما يثير إشكالية معرفية حول معايير الفكر الحقيقي، ويستدعي مساءلة الخطاب الذي يتبناه هؤلاء.

المفكر الحقيقي على الأقل في نظري هو من يمارس التفكير النقدي، ويعتمد على أدوات التحليل المنطقي، ويستند إلى مصادر علمية موثوقة، ويطرح أفكارًا قابلة للنقد والتحقق. إنه يسعى لفهم الظواهر دون تحيّز، ويُسهم في بناء المعرفة وتطوير الوعي العام. أما المفكر الزائف، فهو من يتبنى خطابًا إنشائيًا يعتمد على الإثارة والجدل، ويغيب عنه المنهج العلمي، ويعتمد على اللغة العاطفية وشئت فقل (الشعبوية)، ويقدّم أفكارًا غامضة دون برهان، ويرفض النقد ويغلق باب الحوار.

 

ومن أبرز مظاهر هذا الخطاب الزائف أنه كثيرًا ما يتخذ من الطعن في الدين وسيلة لإثبات ذاته الفكرية، فيُصوّر الثوابت الدينية على أنها عوائق أمام “التحرر العقلي” وأمام “التقدم العلمي”، ويُسقط على النصوص الدينية قراءات سطحية أو مغرضة في كثير من الأحيان، دون الرجوع إلى أصولها أو فهم سياقاتها التاريخية واللغوية. وهذا يتعارض مع قول الله تعالى: “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم” (الأحزاب: 36)، وقوله سبحانه: “فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا” (النساء: 65).

فمنهج المؤمن في التعامل مع النصوص الشرعية يقوم على التسليم والبحث عن الفهم، لا على التشكيك والطعن.

هذا النوع من الطرح لا ينبع من رغبةٍ حقيقية في الفهم أو الإصلاح، بل من نزعة استعراضية تهدف إلى إثارة الجدل وتقديم الذات كـ”متمرد فكري”، وهو ما يُعد انحرافًا عن جوهر الفكر النقدي الذي يقتضي الإنصاف والموضوعية. وقد حذّر النبي-صلى الله عليه وسلم-  من أمثال هؤلاء حين قال: “إن مما أخاف عليكم بعدي زلة عالم، ومنافقًا يجادل بالقرآن، ودنيا تُفتح عليكم” (رواه الدارمي).

فالمنافق الذي يُجادل بالقرآن دون علم أو فهم يُعد خطرًا على الدين والوعي، وهو ما ينطبق على كثير من الخطابات الزائفة المعاصرة من دعاة التحرر ومن شاكلهم.

والأخطر من ذلك أن بعض هؤلاء المفكرين الزائفين قد يحظون بدعمٍ مباشر أو غير مباشر من جهات إعلامية أو مؤسسات ثقافية ذات توجهاتٍ معادية للدين، تسعى إلى زعزعة الثوابت وزرع الشك في القيم التي يقوم عليها المجتمع المحافظ كمجتمعنا المغربي الأصيل المتدين بطبعه وطبيعته. إن هذا الدعم لا يأتي من فراغ، بل يخدم أجنداتٍ يمكن وصفها بالتخريبية، والتي تهدف إلى تفكيك الهوية الثقافية والدينية من الداخل، عبر أدواتٍ ناعمة تتستر خلف شعارات التنوير والحرية الفكرية. وهكذا يتحول “المفكر الزائف” إلى أداة دعائية تُستخدم لتقويض الثقة في المرجعيات الدينية، وتشويه المفاهيم الراسخة، وإعادة تشكيل الوعي وفق نماذج مستوردة لا تنسجم مع سياقنا نحن أهل الإسلام.

ولعل المفارقة المؤلمة أن هذا اللقب يُمنح أحيانًا لا بناءً على عمق الطرح أو دقة التحليل، بل على مدى جرأة المدّعي في الطعن بثوابت الأمة، وكأن التشكيك في العقيدة، أو السخرية من القيم، أو تفكيك المرجعيات، أصبح معيارًا للترقية الفكرية في بعض الأوساط الإعلامية والثقافية. وهذا ما يُحوّل المفكر الزائف إلى رمزٍ دعائي يُحتفى به، لا لأنه يُقدّم معرفة، بل لأنه يُزعزع اليقين، ويُثير الجدل، ويخدم أجنداتٍ تتعارض مع هوية المجتمع وتماسكه.

ومع ذلك، فإن هشاشة هذا الخطاب لا تلبث أن تنكشف عند أول اختبارٍ حقيقي، كمناظرةٍ علمية أو مواجهة فكرية مع أحد أهل التخصص ممن يستحقون فعلاً لقب “مفكر”. ففي مثل هذه اللحظات، يظهر العوار المنهجي، وتنكشف عورة الطرح، ويتضح أن ما كان يُقدَّم على أنه فكرٌ عميق ليس سوى بناءٍ هش من الإنشاءات والمغالطات، لا يصمد أمام أدوات التحليل الرصين ولا أمام المعرفة المؤصلة. قال جل وعلا: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر: 9)،

فشتان بين من يتكلم بعلم ومن يتكلم بجهل، وبين من يُنير العقول ومن يُثير الصدأ والران على القلوب.

إن الفرق بين النموذجين جوهري؛ فالأول يُنتج معرفة قابلة للتراكم والتطوير، بينما الثاني يُنتج خطابًا استهلاكيًا يفتقر إلى العمق، ويُسهم في تضليل الوعي العام. وقد أظهرت المقارنة أن المفكر الحقيقي يتميّز بمنهجيةٍ واضحة، ومصادر موثوقة، وأفكار قابلة للتحقق، بينما يفتقر المفكر الزائف إلى كل ذلك، ويعتمد على تأثيره الخطابي أكثر من مضمونه المعرفي.

إن انتشار الفكر الزائف في الإعلام والمنصات الرقمية يُعد مؤشرًا على ضعف الثقافة النقدية، ويؤكد الحاجة إلى تعزيز أدوات التمييز بين الفكر الرصين والفكر المصطنع. فليس كل من يتحدث بلغةٍ يزعم أنها نقدية أو يطرح آراء مثيرة يُعد مفكرًا؛ بل إن الفكر الحقيقي يتطلب مسؤولية معرفية، وصدقًا في الطرح، وانفتاحًا على النقد. ومن هنا، فإن التمييز بين المفكر الحقيقي والمفكر الزائف ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة لحماية الوعي من التضليل، وصون الثوابت الدينية من التشويه، والتصدي لمحاولات تفكيك المجتمع المحافظ تحت شعاراتٍ براقة تخفي خلفها أهدافًا أيديولوجية مبيتة.

“فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم” (الزخرف: 43) والله الموفق والهادي إلى الصواب.

والحمد لله رب العالمين

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
20°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة