المقاومة الفلسطينية تِرياق التطبيع
هوية بريس – متابعات
قال الشاعر: سكرنا ولم نشرب من الخمر جرعة *** ولكن أحاديث الغرام هي الخمر.
فشارب الخمر يصحو بعد سكرته *** وشارب الحب يبقى طول العمر سكران.
سَكِر العالم ولم يشرب من الخمر قطرة، ولكن أحاديث التطبيع هي الخمر الذي سرى فعلها في جسم الدول وأجهزتها وقطاعاتها وإداراتها، وسرى في أدبيات وبرامج عدّة جمعيات ومنظمات ومؤسسات إعلامية، كما سرى في قناعات وفي أجندة أشخاص يعتبرون نخبة المجتمع، سَكر العالم بفكرة أن الأمن من مكر الأمم والأمان في زمن النوائب، والمستقبل الزاهر المفروش طريقه بالورود ليس إلا في جوار (إسرائيل) التي ستشفع فروض الطاعة الواجبة لها بالفوز بجوار حاضنتها الولايات المتحدة وتابعاتها من الدول الأوروبية.
أثمل العالمَ كؤوسٌ متعددة من التطبيع من يد الساقي مباشرة ومن يد وكلائه المحليين، ودست يده جرعات معتّقة من التصهين عرفت وتيرتها السرعة القصوى خوفا من صحوة السكارى قبل تثبيت الأوتاد والجذور في مفاصل المجتمع والدولة، وعلى الرغم من أنّه كلما خطا التطبيع خطوة وخطا التصهين خطوتين، خطا تيار مناهضة التطبيع ثلاث خطوات إلى الأمام، إلا أنّ التطبيع الذي يخفي في ثناياه درجة متقدّمة من التصهين أوشك أن يصبح من المقدسات ومن الخطوط الحمراء التي يعتبر من يعارضها أو يناقشها يسير في غير اتجاه مصلحة البلاد.
لكل نظام من أنظمة دول العالم أجندة يرسم من خلالها مستقبل غزّة والقضية الفلسطينية عموما، أمّا المقاومة الفلسطينية فلا ترنو على المدى القريب إلا إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين من سجون الاحتلال وفكّ الحصار البربري البري والبحري والجوي عن قطاع غزّة وتطهير الضفة الغربية من المستوطنات، ولو اختلفت مواقف حكام العرب والمسلمين بين مؤيد على استخفاء ومناهض على استحياء للمحرقة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وبين مؤيد لموقف الولايات المتحدة ونادي دول الاستعمار الأوروبية الذي تترأسه، فإنّ تصفية القضية الفلسطينية هي الهدف التاريخي والأسمى الذي ظلّوا حوله يدندنون منذ زرع الكيان السرطاني في فلسطين، وقد استعمل من أجل تحقيقه الحديد والنار والمكر والخداع إلى جانب مسلسل المفاوضات والاتفاقيات والمعاهدات التي انتزعت من الجانب الفلسطيني ومن وراءه من العرب الاعتراف بدولة (إسرائيل) إلى جانب دولة منزوعة السيادة تسمى فلسطين على جزء من أرض فلسطين تآكلت مساحتها تدريجيا بفعل الاستيطان والطرق الالتفافية، وتآكل الأمن فيها بفعل غطرسة جنود المحتل والمستعربين وقمع قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية ابنة اتفاق أوسلو التي وجدت لتكمل مهام جنود العدو، واستعمل كذلك مسلسل التطبيع الذي بدأ بدول الطوق وتمدّد إلى باقي الدول العربية لضمان حياد المحيط العربي حكومة وشعبا خلال الصراع مع الشعب الفلسطيني، أوعلى الأصح حين الإقدام على انتهاك حرمات المسجد الأقصى وحين استعمال أبشع الوسائل لسفك الدم الفلسطيني.
جرت الرياح بما لا تشتهي السفن وتعزّزت جبهة المقاومة الفلسطينية بالأذرع المسلحة، واتضح من خلال طوفان الأقصى أنّ الطريق إلى تصفية القضية الفلسطينية التي تعرقل الحلم الصهيو-أمريكي في المنطقة يمرّ حتما عبر تصفية الهوية الفلسطينية بإذابتها في الأردن ومصر، أو تصفية المواطن الفلسطيني بالمعنى الحقيقي للكلمة وكآخر الحلول؛ بمنع دخول الماء والغذاء والدواء، وقطع الكهرباء وشبكة الاتصال والأنترنيت، ومنع دخول الوقود الذي به تشتغل المولدات الكهربائية، وإن لم يفلح الأمر وجب قصف العمارات السكنية والمساجد والكنائس ومدارس الأنروا والمستشفيات والمخابز وخزّانات الماء، وقصف مواكب النازحين الهاربين من الحرب، ومواكب سيارات الإسعاف التي تقل المرضى والمصابين، هكذا يمرّ الكيان المحتل بدون رادع ذاتي ولا موضوعي وأمام أعين الأمم والمؤسسات الأممية، من محاولة إذابة الهوية الفلسطينية إلى إذابة الجسد الفلسطيني بأسلحة أمريكية ربما تجرب لأول مرة، وتلك هي خصال من يخلف وينقض بصواريخ تحمل قنابل النابالم وقنابل الفوسفور الأبيض وما لا يخطر على بال من أسلحة التدمير ما وقّعه بالقلم الأسود من مواثيق دولية ومعاهدات ثنائية واتفاقيات التطبيع.
كما صحا شارب الخمر بعد سكرته، صحت الشعوب العربية من سكرة التطبيع، وطالبت من خلال المسيرات بإسقاطه، وتحت ضغطها غادر ممثلو الصهاينة سفاراتهم و مكاتبهم وانكمش تيار الصهينة وعاد إلى حجمه الحقيقي، وعادت القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام العالمي وخرجت الشعوب الاوروبية للتعبير عن رفض الإبادة التي يتعرض لها المواطن الغزاوي، وأصبحت حماس والفصائل تُذكر بالإجماع كحركة مقاومة شرعية، وبدأ الحديث من جديد عن إنعاش حلّ الدولتين وحقّ الشعب الفلسطيني الذي خنقته غطرسة الكيان النازي، صحيح أنّ الثمن هو استشهاد الآلاف من المدنيين من الأطفال والنساء لازال الكثير منهم تحت الأنقاض، وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمصابين، ولكن عدالة القضية وفشل كلّ الطرق السلميّة لحلّها، إضافة إلى صمود الفصائل المسلحة في ساحة المعركة وثبات الشعب الفلسطيني حاضنة المقاومة هي نقطة القوة التي حيرت الاحتلال والمراقبين على حد سواء، وهي من رجحت كفّة المقاومة وبها سيكتب النصر ولو بمداد من دم.
عبد العزيز غياتي