المقهى بين الأمس واليوم         

02 سبتمبر 2022 22:07

هوية بريس – بوسلهام عميمر       

هل المقهى هي فقط مكان لاحتساء فناجين القهوة باعتبارها جسرا نحو اليقظة والنشاط ونفض غبار الخمول عن الأجسام والأذهان، كما يحكى عن أسطورتها مع الراعي الذي لاحظ يقظة و حيوية زائدة تبثهما شجرة بعينها في عنزاته لما يتناولن حباتها فجربها فشعر بنشاط لم يعهده في نفسه، فسارع بإخبار أبناء قريته، فدأبوا على إدمانها.

صحت الحكاية أو لم تصح فمفعولها السحري يعرفه عشاقها، لكن السؤال و ماذا بعد النشاط والحيوية؟ فإذا كان من أجل القيام بعمل ما، رسمي أو تطوعي أو هواية أكمل قيام وأجمله أو استراحة محارب فنعما هي، والعكس فإنه لا شيء إذا كان من أجل تجزية الوقت على
كرسي المقهى لساعات طوال، والخوض في كل شيء دون قول أي شيء.

وهل المقهى هي هذا الفنجان من القهوة، مصحوبا باستهلاك عشرات علب التدخين دون مراعاة جلساء المقهى من غير المدخنين؟ فالأغلبية لا تكلف نفسها حتى الالتفات قليلا لمعرفة من ستجاوره إن كان يدخن أم لا. ظاهرة يساهم فيها حتى معظم أصحاب المقاهي، يتركون حابل الأمر على غاربه، دون تخصيص أماكن للمدخنين، علما فلا أحد بات يجهل مضار وأخطار ما يعرف بالتدخين السلبي على غير المدخنين؟ هذا دون الحديث عمن يصحب طفله إلى المقهى، دون اكتراث لما يجنيه عليه وهو في طور نموه؟ أم هل المقاهي ملاذ للفارين من جحيم البيوت، بحثا عن المتعة المفقودة لسبب أو لآخر؟ ألهذا وجدت من أول يوم عرف ميلادها؟ هل هذا كل ما في جعبتها تفيد به روادها و زبناءها؟ هل هي مكان للثرثرة وحسب؟

أم هل هي فقط لمتابعة مباريات كرة القدم، مع ما يصاحبها من تنابز تتجاوز حدودها بين مناصري هذا الفريق أو ذاك. فشر البلية ما يضحك، لما تجد عددا لا يجدون ما يؤدون به ثمن فنجان قهوة، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها تضامنا مع إحدى الفرق العالمية، يزعقون
بانفعال وكأن لهم أسهما في رأسمالها، “خاشي كرموصهم فالشريط” فيتحدثون عن شرائهم لهذا النجم الكروي أو ذاك، ولا يترددون في كيل الاتهامات لمدرب الفريق وينتقدون خططه، ويقسمون بأغلظ الإيمان أنهم سيحصدون كل البطولات و الكؤوس، علما فهذه الفرق لا تعرف بتاتا “فينا ورقة مبيتين” لا هم ولا أمثالهم في أقاصي الدنيا.

لمقاهي للأسف رغم حضورها البارز في المجتمعات العربية بالخصوص لم تحض بعد بالاهتمام. فالدراسات شحيحة في هذا المجال. فهي تتناسل كالفطر بشكل رهيب، حتى أضحت كما يقال على سبيل التفكه “بين مقهى ومقهى مقهى”. لكن هل تطورت أدوارها،
أو على الأقل، حافظت على أسباب نزولها في بدايات عهدها، لما كانت فضاءات تعج بالنقاشات و انتقاد السياسات العمومية بكل حرية. في بريطانيا وغيرها من الدول كانت المقاهي بمثابة “جامعات رخيصة”.

ففضلا على الانتشاء بكأس قهوة، يكون مناسبة للاطلاع على وجهات النظر المختلفة والمتباينة حول مجمل القضايا؛ سياسية ثقافية اقتصادية وغيرها داخل الوطن أو خارجه. فقد كانت المقاهي أماكن لنشر الوعي وليس تكليسه وتخديره. فقد كانت مكاتب لعدد من المفكرين في عصر النهضة، ومراسم لفنانين كبار، وأماكن أثيرة للكتاب والمؤلفين. ولعل تجربة نجيب محفوظ مع مقهى الفيشاوي لا
تزال ماثلة للعيان شاهدة على أدوار المقهى الطلائعية. فهي إلى اليوم محج للزوار لارتباطها برواياته. كما كانت فضاء مناسبا لعرض أحدث الإبداعات.

في البلاد الإسلامية سابقا، إسطنبول لوحدها قيل أنها كانت تضم حوالي ستمائة مقهى.

فلما شعر الخلفاء بخطورتها على سلطانهم، سخروا لها الفقهاء ليفتوا بتحريم احتساء القهوة كالخمر، ومن تم دعوا إلى وجوب إغلاق أبواب المقاهي(1511م).

ازدادت أهميتها لما ضمنت الجرائد والصحف وجودها بفضاءاتها، إذ اعتاد روادها الاطلاع على مضامينها، فكانت النقاشات على أشدها تعبيرا عن سخطهم واحتجاجهم على أحوالهم المزرية. فكانت المقاهي بأوربا يومذاك منطلقا للعديد من الثورات والانتفاضات. وإن كانت اليوم الجرائد متوفرة بالمقاهي، لكن من يقرؤها؟

في أحسن الأحوال قراءة العناوين وملأ شبكات الكلمات المتقاطعة أو الأخبار الموجزة عن الترقيات بالنسبة للموظفين. دون الحديث عما يشوب هذه العملية من تخلف بين، لما تجد الواحد يستحوذ عليها ليراكمها أمامه وكأنها ملكه الخاص. اليوم، المقاهى فضاءات مصغرة لما تعج به المجتمعات من تخلف وتناقضات.

الأنانية في أبشع تجلياتها. فما الذي تبقى اليوم من أدوار للمقاهي إذا استثنينا المقاهي الأدبية، خاصة مع انتشار الويفي، إذ أصبح كل واحد منكفئا على ذاته؟

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M