الملحمة الموؤودة
هوية بريس- د.عبد الله الشارف
بلدي الغيور الشهم الأبي، أرى وجهك قد علته مسحة من الحزن والكآبة، واشتعل رأسك شيبا بسبب المعاناة المتراكمة والانكسات المتتالية، وانهد بدنك وأنت في ريعان شبابك.
في زمن الاستعمار وقبيل الاستقلال، كان آباؤنا وأجدادنا يرتقبون طلوع فجر الحرية والانعتاق، وفدوك بأرواحهم، بعد أن قاوموا سنوات بل عقودا من الزمن كي يطردوا المستعمر الظالم الغاشم. ثم كانت الملحمة التاريخية؛ ملحمة العزة والنصر والاستقلال. وتنفس المغاربة الصعداء، وضمدوا جراحاتهم، وعانقوا تباشير عهد جديد.
وبعد مرور عقد أو عقدين على الاستقلال، تبين للمغاربة الغيورين على دينهم وهويتهم وتاريخهم، أن الملحمة انتكست وأن الآمال تحولت إلى سراب في بيداء يباب.
لن أدخل معك بلدي العزيز الشهم الأبي في تفاصيل انتكاسة الملحمة، وما أظنك تجهلها، لكنني مع ذلك سأشير باختصار، إلى مشهدين من مشاهدها.
إن النخبة السياسية التي تصدرت المشهد السياسي عقب الاستقلال والمتمثلة في حزب الاستقلال، قد رفعت شعار الإصلاح والبناء، والعمل على تحقيق تنمية شاملة للبلاد. وتشهد على ذلك خطابات الحزب ومؤتمراته، ونشر مبادئه وأهدافه على صفحات جريدة العلم. وكذلك الإنجازات الكثيرة في المجالات الاجتماعية والثقافية والتربوية وغيرها. إلا أنه، مع مرور الزمن، بدأت الفجوة تتسع بين النخبة السياسية وبين شرائح المجتمع، وذلك بسبب الميولات البورجوازية لدى النخبة من جهة، وكذا تبعيتها للغرب ودورانها في فلك التغريب، مما أدى إلى إجهاض آمال المغاربة.
وإلى جانب الكتلة الاستقلالية، كانت كتلة سياسية أخرى تترعرع، لكنها اختارت الاتجاه الاشتراكي متأثرة بكارل ماركس، ولينين، وشيغيفارا، وغيرهم من أصحاب الحلم الاشتراكي والشيوعي. بيد أن هذه الكتلة لم يكن لها أثر كبير في الشعب المغربي، لكونها اعتبرت انسلاخ المغاربة من دينهم وهويتهم، واقتداءهم بروسيا شرطا أساسيا لليقظة والتقدم، فكان الفشل الذريع حليفها. ورغم وصول هذه الكتلة هي الأخرى إلى المسرح السياسي، فإنها ما زالت تتخبط خبط عشواء، كما بذرت فيها بذرة البورجوازية والانتهازية والمصالح الشخصية، وأصبحت هي وغريمتها وجهين لعملة سياسية واحدة.
أما الكتلة السياسية الجديدة؛ كتلة حزب العدالة والتنمية، فإنها بعد أن ظفرت بكرسي الحكومة، لم تقدم شيئا مما وعدت به من الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، وبقيت دار لقمان على حالها. كما ظل برنامج الإصلاح والتغيير، الذي طالما نوهت به قبيل الانتخابات، حبرا على ورق. وهكذا ذهبت الوعود أدراج الرياح، وتبين للشعب المغربي أن سياسات الحكومات المتعاقبة متماثلة من حيث الأهداف والممارسة، وإن اختلفت من حيث الخطابات والتوجهات الأيديولوجية.
ومن ناحية التربية والتعليم، فقد اختار المسؤولون المستغربون في الحكومات المتعاقبة منهج التقليد والتبعية، وطفقوا يستوردون من الغرب المناهج والطرق والأساليب التربوية الجاهزة، التي نتج عنها بعد تطبيقها وتنزيلها، ما لا يعد ويحصى من الكوارث والمصائب المتعلقة بمجال التربية والتعليم. ولعل من الدواهي المدهية والنوائب المبكية التي ما فتئت تنخر في جسد هذا المجال الحيوي؛ داهيتا الازدواجية اللغوية والفرنكفونية، وذلك من حيث أثرهما السلبي في المنظومة التربوية، وفي شخصية المتعلم وهويته، وفي ثوابته وقيمه الدينية والحضارية.
إن مما هو بديهي عند العلماء واللغويين منهم خاصة، أن اللغة والثقافة في التحام دائم، ويشكلان وجهين لموضوع واحد، ذلك أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب وإنما هي أيضا ناقلة للثقافة التي تنتمي إليها. أو بعبارة أخرى؛ فإن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار فحسب، وإنما هي ذات ارتباط وثيق بالأفكار التي تنقلها، وذات تأثير فيها وتأثر بها. كما أن اللغة تؤثر في الشخص الذي يتحدث بها ويمارسها تأثيرا لا حد له، يمتد إلى تفكيره وإرادته وعواطفه وتصوراته وإلى أعماقه النفسية، وإن جميع تصرفاته تصبح مشروطة بهذا التأثير ومتكيفة به.
وبما أن طابع الثقافة الفرنسية علماني ومادي، فإن الأخلاق والقيم الاجتماعية السائدة في فرنسا، هي من جنس تلك الثقافة. فالإباحية والانحلال الخلقي، وما أشبه ذلك، تبدو عند الفرنسي أمورا عادية، بل ربما عبرت عن الحرية في أسمى معانيها. ولما كانت اللغة الفرنسية وعاء لثقافة مليئة بالمظاهر اللأخلاقية، لم يكن غريبا أن تكثر فيها الكلمات والألفاظ والأمثال والمعاني الساقطة، وكفى بأدبها، شعرا ونثرا ، دليلا على ذلك. ومن هنا فإن مؤلفي الكتاب المدرسي لمادة الفرنسية، انساقوا مع تيار الثقافة الفرنسية، واستعذبوا كثيرا من النصوص رغم مضمونها اللأخلاقي.