المنتصر الحقيقي في أزمة كورونا ليست أمريكا ولا الصين بل هذه الدول التي تعمل كثيرا ولا تتكلم
هوية بريس – وكالات
لا يمثل فيروس كورونا المستجد مجرد كارثة للصحة العامة العالمية وحسب، بل وسيُحدِث كذلك تغيُّراً في خارطة العالم السياسية، إذ إن الدول الأنجح في معالجة أزمة كورونا سيعلو شأنها في النظام الدولي بعد كورونا.
إذ أن للجوائح سوابق في التأثير على النظم الدولية وتغييرها في الماضي، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية، كتبته أميتاف أشاريا الأستاذ بالجامعة الأمريكية في واشنطن.
فقد أدت جائحة مدمرة إلى إنهيار أقوى إمبراطورية في التاريخ.
كيف أدى الموت الأسود إلى انهيار أقوى إمبراطورية في التاريخ
قتلت جائحة “الموت الأسود” في القرن الرابع عشر الميلادي، والتي يُعتَقَد أنَّها خرجت من الصين أيضاً، 90% من سكان إقليم خوبي الصيني، ونحو نصف سكان الصين البالغ عددهم آنذاك 123 مليوناً، كما قلَّص عدد سكان العالم بما يزيد على 100 مليون.
وقد أدَّى ذلك إلى اضمحلال النظام الدولي المغولي.
فبعدما بنى المغول أكبر إمبراطورية برية في تاريخ العالم، أقاموا تجارةً على نطاقٍ واسع، وربطوا بين شرق آسيا وشرق المتوسط وأوروبا في شبكة اقتصادية هائلة، وبنوا الطرق والجسور ومحطات الربط، ووفَّروا الأمن للتجار والمسافرين، أصبحت طرق التجارة هذه قنوات لانتشار الجائحة.
عطَّل الطاعون العلاقات الاقتصادية المتداخلة، التي كانت معروفة باسم “نظام خوبي”، بين الأقسام الأربعة للإمبراطورية، مقاطعة يونان في الشرق (بكين حالياً)، وخانية الجغتاي في المنتصف، والدولة الإلخانية في الجنوب الغربي (آسيا الوسطى وإيران)، وخانية القبيلة الذهبية في الشمال الغربي على الحدود الروسية. فأغلقت المدن الأوروبية حدودها وانقلبت على اليهود، الذين تحمّلوا اللوم، كالعادة، عن الكارثة. وقطعت الجائحة الصين عن أوروبا لقرون.
كانت الإمبراطورية المغولية بفضل جيوشها التي جمعت بين ضخامة العدد والكفاءة وسرعة التنقل، أكبر إمبراطورية قدرة على التدمير في التاريخ القديم، وفي الأغلب الإمبراطورية الأكثر تفوقاً على أعدائها ومنافسيها على مدار التاريخ، إذ لم تهزم إلا مرات قليلة مثلما حدث أمام المماليك في معركة عين جالوت.
ولكن جائحة الطاعون الأسود ساهمت في تفكيكها.
طاعون الشباب مقابل وباء المسنين
ومقارنةً بالموت الأسود، يبدو فيروس كورونا المستجد بسيطاً؛ فعلى الرغم من قوة العدوى القوية له، يبدو أنَّ معدل الوفيات به أقل حتى الآن. وكان الموت الأسود قد تسبب في قتل الكثير من الشباب (يُوصَف التفشي الذي بدأ في 1361-1362 بـ”طاعون الشباب”)، في حين يقتل فيروس كورونا كبار السن في الغالب.
مع ذلك، وعلى الرغم من تقدُّم الطب والرعاية الصحية الأفضل حالياً، بُوغِتَت الكثير من البلدان دون أن تكون مستعدة وأظهرت قصوراً فادحاً.
ويبدو أنَّ نظام الحجر الصحي الذي ابتكره الخليفة الأموي السادس، الوليد بن عبدالملك، في دمشق، مطلع القرن الثامن الميلادي، هو السبيل الفعّال الوحيد لمحاربة انتشار الفيروس، إلى جانب مصطلح ما بعد الحداثة الأنيق: “التباعد الاجتماعي”.
كيف سيكون شكل النظام الدولي بعد كورونا؟
كيف سيؤثر فيروس كورونا على النظام الدولي الحالي إذاً؟ أو كيف سيكون شكل النظام الدولي بعد كورونا؟
لا يزال من المبكر الجزم، لكنَّ بعض الاتجاهات واضحة.
أولاً، ستُقوِّض الأزمة من دعم العولمة، التي أُضعِفت بالفعل من جراء الشعبوية المتصاعدة وسياسات رئاسة ترامب. وستُلام العولمة على سرعة البرق التي ينتشر بها الفيروس حول العالم، بسبب عناصر الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الدول والسياحة والسفر، وسيخلق ذلك ردة فعل أكبر ضدها. وأدَّى إغلاق الحدود الوطنية والمحلية، وإعادة التأكيد على سيادة الدولة، إلى تعرية أكبر لواحدةٍ من أقوى أساطير العولمة، المتمثلة في وجود عالم بلا حدود.
ثانياً، قد يدق الفيروس مسماراً في نعش فكرة “الغرب”، بما في ذلك كل ما تبقى من العلاقات العابرة للأطلسي بعد الدمار الذي سبّبه ترامب، إذ فشلت مجموعة السبع في إصدار بيانٍ بسبب إصرار إدارة ترامب على استخدام وصف “الفيروس الصيني”.
في الوقت نفسه، حذَّر رئيس الوزراء الإيطالي السابق إنريكو ليتا أوروبا من الإصابة بـ”فيروس ترامب”، بحيث تتبنّى الدول سياسات “إيطاليا أولاً” أو “بلجيكا أولاً” أو “ألمانيا أولاً” على حساب استراتيجية دعم أوروبية مشتركة للاتحاد الأوروبي في إيطاليا.
ثالثاً، قد يؤدي الفيروس إلى تقوية أجندة “أمريكا أولاً” التي يتبناها الرئيس ترامب. فقال بيتر نافارو، مهندس الحرب التجارية التي يشنها ترامب، في الثاني من أبريل: “إن كان من دفاع عن لفلسلفة واستراتيجية وإيمان الرئيس بتأمين الحدود الأمريكية وإقامة قاعدة تصنيع قوية، فهي هذه الأزمة؛ لأنَّها تؤكد كل ما توقعناه”. لكنَّ صورة البلد المسكين صاحب أكبر اقتصاد وجيش في العالم وهو يقف بلا حول له ولا قوة، تتعارض مع أمنية ترامب “لجعل أمريكا عظيمة مجدداً”.
مع ذلك، تُقلِّص الأزمة على نحوٍ خطير مصداقية أمريكا عالمياً، ومصداقية إدارة ترامب داخل الولايات المتحدة. إذ سيصعب نسيان تلك الصورة. وفي حين قد لا يكترث ترامب بالرأي العام الدولي، هناك الكثير من الأمريكيين الذين يشعرون بإحساس عجزٍ يتجاوز الانتماءات الحزبية.
كل هذا قد يعني دق مسمار آخر في نعش النظام الدولي الليبرالي، الذي يترنَّح بالفعل بسبب سياسات ترامب والشعبوية الغربية.
من يتضرر أكثر من الأزمة.. الصين أم أمريكا؟
رابعاً، هل ستستفيد الصين من هذه الأزمة؟ تضع هذه الأزمة النموذجين الاقتصاديين والسياسيين للولايات المتحدة والصين تحت المجهر الدولي، ومَن يخرج منها بشكل أفضل سيحظى بمصداقية أكبر.
وهناك احتمال أن يكون الأثر الاقتصادي للأزمة أشد على الولايات المتحدة منه على الصين. وفي حال حدث هذا، سيُعجِّل بانتقال القوة نحو آسيا، وهو الأمر الذي كان جارياً بالفعل. وسيؤكد خسارة أمريكا لكلٍّ من القوتين الناعمة والصلبة الانتقال نحو نظام عالمي ما بعد الولايات المتحدة، أو ما أُسمّيه بـ”عالم تعددي”.
لكن في حين نجحت بكين في السيطرة على تفشي الفيروس، فإنَّها واجهت انتقادات لعدم تعاملها بشفافية وفعالية في البداية لمنع الفيروس من الخروج عن السيطرة، وهو ما يُقوِّض طموحات بكين في القيادة العالمية.
وإلى أن تقبل الصين بتحمُّل نصيبها من المسؤولية عن التفشي، لن يُعاد ترميم صورتها الدولية.
وفي الواقع، قد تنتهي الأزمة بوضع قوى ناشئة أخرى، مثل الهند أو روسيا، في مواضع سلبية إذا ما كرَّرت إخفاقات الغرب.
الدول الأنجح في معالجة أزمة كورونا بدون ضجيج.. ديمقراطية أم مستبدة؟
أخيراً، سيتجادل الخبراء حول ما إن كانت الاستجابات الوطنية للأزمة تضع الديمقراطيات في مكانة أفضل من الدول السلطوية أم لا. لكنَّ الدول التي قدَّمت ردود فعل قوية على نحوٍ معقول تجاه فيروس كورونا تنتمي إلى الفئتين. والتنافس الحقيقي هنا سيكون بشأن الحوكمة، وليس الأيديولوجيا أو نوع النظام.
إذ تؤكد الأزمة الحالية حقيقة أنَّ الحوكمة الفعالة تتفوق على القوة المادية (اقتصادياً وعسكرياً) في التعامل مع التهديدات الدولية. نؤكد مجدداً أنَّه لا يزال من المبكر للغاية الحكم على النجاح النهائي، لكن في حال استمرت التوجهات الحالية، سيكون “الفائزون”، إذا ما كانت هذه هي الكلمة المناسبة في هذا الإطار، هم الدول/المناطق الصغيرة والمتوسطة التي استطاعت الارتقاء لمستوى الحدث بإجراءات الفحص والاحتواء، مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتايوان.
السياحة هي المتهم الأكبر والضحية الأولى للجائحة
وفي حين يوجد خطر حقيقي بأن يدفع الفيروس البلدان نحو التركيز أكثر على الداخل وتعزيز نزعة “الاعتماد على الذات” الاتجارية على حساب التعاون المتبادل، فإنَّ هناك جانباً مضيئاً، شريطة أن يتعلم المجتمع الدولي الدروس الصحيحة من هذه الأزمة.
فعلى العكس من أولئك الذين ينظرون إلى الأزمة باعتبارها تشير إلى مخاطر العولمة وفضائل الاعتماد على الذات، أعتقد أنَّها تُمثِّل دفاعاً عن أنصار الاعتماد المتبادل. فالحُجّة الرئيسية لنظرية الاعتماد المتبادل لا تتمثل في أنَّها تمنع الصراع، بل إنَّها تجعل الصراع أعلى تكلفةً بالنسبة لكل الأطراف المشاركة في علاقة الاعتماد المتبادل. وأزمة فيروس كورونا أثبتت هذا بالتحديد.
الأزمة لن تُنهي العولمة، لكن نأمل أن تزيد مطالبات جعلها أكثر إنسانية وتنظيماً، حسب كاتبة التقرير.
وعلى الدول التراجع عن النهج السياحي المُفرِط، وهو أحد الأسباب الرئيسية خلف تفشي الفيروس، وبالتالي حماية تراثها الوطني والبيئة العالمية.
ويجب أن تخلق الأزمة وعياً أكبر بالاستثمار في الصحة العامة الوطنية والعالمية. كما تبرز الأزمة أهمية التعاون، الثنائي ومتعدد الأطراف. وأدّى الانهيار في العلاقات الأمريكية – الصينية إلى جعل الاستجابة الأمريكية والدولية تجاه فيروس كورونا أضعف بكثير من أزمات الماضي، مثل تفشي سارس وإيبولا وإنفلونزا الخنازير. وإن كان الأمر كذلك، فإنَّ أحد الدروس الرئيسية المستفادة من الأزمة هو الحاجة إلى تعاون دولي أكبر وليس أقل. (عن العربي بوست)