المهن الدرامية وسؤال التقنين
هوية بريس – محمد كرم
تنبيه: مصطلحا “ممثل” و”ممثلون” مستعملان بأكثر من موقع للإشارة إلى الجنسين معا.
لاحظت خلال السنوات الأخيرة أنه كلما أتيحت الفرصة لممثلة مغربية أو ممثل مغربي بأن يدلي برأيه بخصوص ما يعتمل داخل حقل تخصصه إلا وعبر عن تذمره وعن الحاجة إلى صياغة واعتماد قانون من شأنه تنظيم “الضومين” والقضاء نهائيا على السلوكات “الشاذة” المرصودة به مع التركيز على إشكالية التمييز الممارس في عملية انتقاء الممثلين والذي يجعل العمل حكرا على طبقة منهم دون أخرى. لكن، وعلى امتداد التاريخ، متى كان للفن بصفة عامة شروط وضوابط وموانع خارج الخطوط الحمراء المتعارف عليها تقليديا؟
التقنين لا معنى له في غياب وضع رسمي. التقنين يهم المهن والوظائف الكلاسيكية لا غير، والفن لا يدخل لا في خانة الوظيفة العمومية ولا في خانة القطاع الخاص المهيكل، بل هو عمل حر يزاول بمنطق التراضي وبمقتضى عقود قصيرة الأمد في الغالب. حتى تجربة “الممثل/ الموظف” توقف العمل بها منذ مدة بعدما اتضح بأن الإبداع الفني لا يزدهر ولا يثمر إلا في كنف الحرية و ليس في وجود مدير مركزي و مدير جهوي ومدير إقليمي ومدير مباشر. أما “بطاقة الفنان” التي بحوزة الكثيرين فتروم التصنيف المهني فقط مع منح امتيازات محدودة لحامليها.
و حتى لا يتهمني أحد بالدفع في اتجاه تكريس الجمود و معاكسة التطورات المتسارعة التي يعرفها العصر أقر بأن التقنين مستحب و ممكن، و لكن في هذا القطاع بالذات من المستحيل أن يخضع كل شيء للقانون. الجوانب التقنية والمادية هي وحدها القابلة للضبط والتشريع. وهكذا، فمن الممكن التوافق حول مجموعة من المعايير والإجراءات العملية مع التأكيد على ضرورة احترامها وتفعيلها وذلك من قبيل تحديد صيغة العقود ومحتوياتها الأساسية وتصنيف الممثلين وتحديد الأجر الأدنى وقيمة التعويضات المتنوعة وحجم المساهمة في نظام الخدمات الصحية وصندوق التقاعد وبيان شروط السلامة والتأمين بمواقع التصوير وشروط انتقاء شركات الإنتاج لضمان قدر أدنى من الشفافية…
والمممثلون، كغيرهم من المواطنين، تسري عليهم القوانين الجنائية وتلك المرتبطة بالعقود والالتزامات ومن الطبيعي الاحتكام إليها لحل النزاعات والإشكالات القانونية التي تبرز بالميدان من وقت لآخر… أما تدخل المشرع في ما هو فني صرف فهذا أمر غير مقبول من الناحية المهنية، إذ لكل مخرج رؤيته واختياراته وقناعاته ومن الصعب جدا أن يحيد عنها، ولكل منتج حساباته وأعذاره ومبرراته ومن غير المحتمل أن يرمي بنفسه إلى التهلكة فقط لإرضاء جهة أو جهات معينة ولاعتبارات إنسانية صرفة.
من سابع المستحيلات إذن سن قانون تحدد على أساسه أسماء المؤهلين للمشاركة في عمل ما. توزيع الأدوار كان دائما و ما يزال و سيبقى من صلاحيات المخرج باعتباره المسؤول الأول عن الجانب الفني للعمل. و بهذه الصفة، لا شيء يمنع هذا الأخير مثلا من التعامل مع الوجوه الجديدة فقط (بمن فيهم المؤثرات و المؤثرون و المتطفلات و المتطفلون ) و تجاهل كل الوجوه المألوفة، و لا شيء يمنعه من رفض التعامل مع نجم من النجوم حتى و لو أبدى هذا النجم الرغبة في العمل “فابور”، و لا شيء يمنعه من إسناد دور رائد فضاء لعزيز داداس أو دور حارسة سيارات لسلمى رشيد أو دور سفير فوق العادة لمحمد مهيول، و لا شيء يمنعه من الاستمرار في التعامل و لمدة طويلة مع نفس الوجوه طالما أنه مؤمن بقدراتها و مقتنع بأدائها و سعيد بتعاونها و جاهزيتها بالضبط كما أن أي مدرب من مدربي كرة القدم له الحق في إبراز من يشاء من اللاعبين و في تهميش من يشاء منهم مهما كان وزنهم على ميزان الشعبية و الأداء الكروي طالما أن قدرهم الرياضي بين يديه لفترة محددة و تحت يافطة ناد محدد. قد يكون للمنتج أيضا رأي في الموضوع لاعتبارات شخصية أو مادية تخصه و لا حق لأي كان مناقشة اختياراته مادام التمويل من جيبه بصيغة أو بأخرى. و عليه، سيظل منطق “الكليكة” حاضرا بكل ما يعنيه من “زبونية” و “محسوبية” و لن يزج بمتبنيه في السجن أبدا.
هذه هي طبيعة القطاع في العالم بأسره، و على الحالم بولوجه أو المقبل على الانخراط فيه أن يعي هذه الحقيقة و أن يتحمل مسؤوليته إن هو قرر التصرف على شاكلة المدمنين على ألعاب الحظ الذين لا يرون إلا كمشة الرابحين و لا يرون جحافل الخاسرين ، و هو ليس مجبرا بالضرورة بأن يركب صهوة الممارسة الفعلية للعمل الدرامي لسنوات طويلة ليخبر طبيعته. يكفي أن يستعرض المرء أسماء العشرات ممن احترفوا هذا الفن الجميل و يطلع على مصائرهم ليكتشف أن لحضور الحظ أو غيابه نصيب الأسد في محددات النجاح أو الفشل.
فكم من ممثل بمؤهلات عادية جدا جدا راكم الأموال و الأعمال، و كم من ممثل تحول إلى أيقونة من أول ظهور له فأصبح التفاوض معه غير ممكن في غياب مدير أعماله، و كم من ممثل يضطر بين الفينة و الأخرى إلى الاعتذار عن المشاركة في بعض الإنتاجات بفعل ضغط العمل و الكم الكبير من العروض التي تنهال عليه، و كم من نجم ظل نجما طوال حياته و أينما حل و ارتحل يبسط له السجاد الأحمر، بل من الممثلين ـ و خاصة منهم أولئك الذين شكلوا مدرسة قائمة الذات في التشخيص ـ من خصص لهم استقبال رسمي بقصور ملكية و رئاسية، و كم من ممثل بارك الله له في رزقه و عرف كيف يصون كرامته و عاش مستورا و مات مستورا و حظي بتكريم يليق به و بمسار المحارب الذي سلكه و حظيت أسرته عقب وفاته بتعاطف و تعازي أعلى سلطة بالبلاد.
في المقابل، كم من ممثل موهوب وجد نفسه ذات يوم محالا على التقاعد ما قبل المبكر لا لشيء إلا لكونه أدلى بتصريح عفوي أو صحفي لم يرق للبعض، و كم من ممثل قضى زهرة شبابه و جزءا من كهولته مطاردا من قبل محبيه بالشوارع و الفضاءات العامة طمعا منهم في الحصول على توقيعه أو في أخذ صورة معه فوجد نفسه في نهاية المسار على حافة التسول بعدما أصبح وضعه لا يؤهله حتى للاقتراض، و كم من ممثل تنحصر طموحاته اليوم في تلقي دعوة للمشاركة رمزيا في عمل ما بصفة ضيف شرف لا أقل و لا أكثر علما بأن الاشتغال بهذه الصفة يكون بعد الشبع و ليس ببطن جائع، و كم من ممثل ما كان ليقوى على مواجهة تكاليف الحياة لو لم تكن لديه موارد مالية إضافية من خارج التمثيل، و كم من ممثل اختفى فجأة و لا يعرف له عنوان، و كم من ممثل توقفت مسيرته الفنية لأسباب هو نفسه يجهلها، و كم … و كم …
و هناك اليوم فئة ثالثة من الممثلين قاسمهم المشترك أن هواتفهم كفت عن الرنين فلم يستسلموا و لم يثيروا زوبعة في صحراء و إنما راحوا يطلون على الجمهور من نوافذ مبتكرة أخرى أفرزها العصر مستبدلين بذلك استجداء المخرجين باستجداء محبيهم على أمل ظفر أعمالهم بأكبر قدر ممكن من المشاهدات و “اللايكات”.
إني أتفهم جيدا دواعي التباكي المتكرر أمام الميكروفونات و الكاميرات و الإصرار الدائم على انتقاد ما هو حاصل و بأشد العبارات إلى درجة الإساءة إلى ممثلين زملاء شاء القدر أن يكون نصيبهم من الكعكة أكبر من نصيب الكثيرين، ولكن ما هكذا تتحقق تصفية الأجواء و ما هكذا تحفظ المصالح و يجابه التهميش و تصان العلاقات الشخصية و المهنية إن كانت الاستمرارية على رأس الأهداف. أما تعليق الآمال على انبثاق قانون ينص أحد بنوده صراحة على التشغيل “بزز” أو ينص بند آخر من بنوده على الفحص السنوي لنوايا المخرجين و المنتجين (و حتى نوايا بعض الزملاء) فهذا أمر لا يمكن إدراجه إلا ضمن خانة الأوهام البينة.
و قد يتساءل سائل : و أين هي وزارة الثقافة من كل هذا ؟
إن أقصى ما يمكن للوزير الوصي على القطاع فعله هو التعبير عن أسفه ليس لواقع القطاع و إنما لواقع و مآل عدد لا يستهان به من المنتسبين إليه الذين منهم من احترف التمثيل عن حب و اقتناع (و ربما عن دراسة أيضا) و منهم من تطفل عليه ذات زمن ربما لأنه رأى فيه حرفة من لا حرفة له، و هذا طبعا موقف خاطئ من الحرفة، و ما مستوى أداء جهابدة التشخيص وطنيا و عربيا و دوليا إلا دليل على أن التشخيص تخصص قائم بذاته له أهله و تقنياته و أدواته و أسسه النظرية أيضا.
في نهاية التحليل، أعتقد جازما أن حاجة الميدان إلى التضامن أكبر بكثير من حاجته إلى التقنين و لا أدل على ذلك من أن حتى جنائز العديد من الفنانين بصفة عامة لا يسير وراءها اليوم من الزملاء إلا المقربون.
ملحوظة ختامية : كاتب هذا المقال ليس صاحب “شكارة” فنية و ليس صاحب رؤية إخراجية و لا يفقه شيئا لا في طبيعة التراجيديا و لا في أصول الكوميديا … و لكنه يعلم جيدا أن التوجيه المدرسي أو المهني الخاطئ هو جسر من الجسور المؤكدة و المتينة المؤدية إلى نار الدنيا و خاصة عندما تغيب قابلية التماهي مع الأوضاع القائمة… و كان الله في عون الجميع.