المواجهة الحضارية
هوية بريس – مولاي التهامي بهطاط اليعڭوبي
لم يتحول العالم فقط إلى قرية كونية صغيرة، بل أصبح كثير من جِده هزلا، وكثير من هزله جدا.
فكرة القدم مثلا لم تعد مجرد “لعبة” أو هواية تمارس في الساحات والشوارع والأزقة، أو حتى “أفيونا” ينسي -ولو مؤقتا- الجائعين جوعهم والعاطلين عطالتهم.. والمسحوقين حقوقهم، بل تحولت إلى “شغل شاغل” للناس من كل الملل والنحل، وإلى “جبهة” لمواجهة حضارية حتى لا نقول “حرب حضارية”، لأن البعض يتصنع التأذي من استعمال ألفاظ ومصطلحات من هذا النوع.
ولتوضيح الصورة أكثر، فخلال محاضرة ألقاها قبل سنوات قليلة هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، تحلى فيها بالموضوعية التي ينتهي إليها عادة بعض الساسة الغربيين حين ينقطع أملهم في احتلال منصب ما، قال ما معناه إن أحد أسباب “سوء التفاهم” بين الشرق والغرب في العصر الحالي، هو أن هذا الأخير يحاول فرض منظومة قيمه على الآخر، وينسى أن هذا “الآخر” له هو أيضا -ربما-منظومته القيمية التي يتمسك بها، ولا يقبل التفريط فيها.
بعبارة أخرى، إن مسألة القيم لا يمكن أن تكون موضوع ابتزاز، خاصة في هذا الزمن الذي عرف طفرة معلوماتية وتواصلية هائلة يصعب التحكم فيها أو حصارها.
فالقيم الإسلامية تتدافع اليوم هي أيضا في “بورصة” القيم، والمسلم لم يعد متلقيا سلبيا منعزلا عن العالم.
فلا توجد في عالم اليوم تقنية تواصلية يغيب فيها الحضور الإسلامي، بكل اللغات، وبكفاءة وفعالية مشهودتين.
من هذه الزاوية إذا، ينبغي أن ننظر إلى الحملة التي رافقت تنظيم قطر لكأس العالم في كرة القدم، من طرف حكومات أوروبية إلى درجة أن إعلامية فرنسية تساءلت قبل أيام على إحدى الشاشات: لم لا يتحدث الناس عن الكرة في كأسها العالمي الحالي بقدر ما يتحدثون عن أمور أخرى بعيدة عن هذا الرياضة ومنافستاها؟ قبل أن تتم مقاطعتها باستعجال من طرف أحد المحللين المخضرمين الذي “أفتى” بأن مشاهدة المباريات في الملعب تكون “أسخن” حين يكون المشجعون مخمورين، وليؤكد أن “الغرب” خضع مرة أخرى لسطوة المال.
ومن المفارقات هنا أن صاحبنا لم ينتبه إلى المال الخليجي الذي يصرف على الأندية الأوروبية بسخاء لإنقاذها من الإفلاس المحقق، بل إن رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم أشار هو أيضا إلى الصفقات الفلكية التي تبرمها حكومة بلده مع قطر، دون أن تثار المواضيع المثارة حاليا.
وعلى كل، فالأمر هنا لا علاقة له لا بحقوق العمال ولا بحقوق الإنسان، بل هي فقط جولة من جولات “المواجهة الحضارية”، التي ينكرها بعض بني جلدتنا، الذي لا يرون أن “المنظومة القيمية الشرقية” لها وجود أصلا، فأحرى أن تكون مؤهلة للمواجهة.
ومع الأسف، فهذا ليس سوى تأكيد على حقيقة أن “الآخر” يعرف ديننا أكثر منا.. وأهم ما يعرفه هذا “الآخر” هو أن الإسلام محرك حضاري، ينقل “أمة” العاملين به إلى الصفوف الأولى بين الأمم.
وهذا ما أكده بوضوح مقطع متداول لقناة “بي إف إم” الفرنسية التي لا يجادل أحد في منسوب كراهيتها للعرب والمسلمين، حيث إن أحد أشهر إعلامييها سأل زميله المتواجد في قطر عن “ظروف الإقامة”، وكأن الرجل سافر إلى أدغال الأمازون.
لكن الجواب كان أسوأ من السؤال، لأن المراسل قال إن كل شيء جيد، لكن هناك مساجد كثيرة.. فما علاقة هذا بذاك؟
لنتخيل فقط لو أن إعلاميا من أية قناة ناطقة بالعربية قال إن فرنسا فيها كنائس كثيرة، هل كان وزير الداخلية دارمانان “المتطرف”، سيعتبر ذلك من باب “حرية التعبير”؟
والخلاصة هنا هي أن الطفرة التي وفرتها ثورة المعلوميات، حرمت “الآخر” من السيطرة، فلم يعد صوته وحده المسموع، بل هناك أصوات كثيرة متعددة ومتنوعة، وكل كلمة تطلق هنا، إلا ويتردد صداها هناك وهنالك في نفس اللحظة، وتتبعها ردود من كل المستويات.
والأكثر من ذلك أنه لم يعد المجال حكرا على الصورة النمطية المرسومة عن “الآخر” في الإعلام الغربي.
فـ”الشرقي” كان عليه أن يظل في الجبة التي فصلت له. فهو متخلف شهواني، غني وغبي، لا يعرف قيمة المال ولا الجمال ولا الحياة، ويعيش مع دوابه في خيمة في الصحراء الجرداء..
وهذا ما تنقضه وتناقضه مثلا الصور المنقولة من قطر بمناسبة كأس العالم، وبشهاددة إعلاميين غربيين، وهي تظهر بشرا عاديين، لا وحوشا، وناسا يعيشون عصرهم وليسوا قادمين عبر “آلة الزمن” من أزمنة غابرة.
ومن المفارقات، أنه في الوقت الذي كان فيه الإعلام الفرنسي مشغولا بِعدِّ المآذن في قطر، كان الرئيس ماكرون يؤنب “السفراء الشباب للفرنكوفونية” في جربة التونسية، على تراجع لغته الرسمية في دول “المغرب العربي” خلال العشرين إلى ثلاثين سنة الماضية، ويشدد على ضرورة استعادة مكانتها، والأغرب أن لا يتجرأ أحد من الشباب “المغاربيين” الحاضرين لتنبيهه إلى أنه يتحدث عن دول “مستقلة” يحملون جوازاتها، لها هوياتها ولغاتها ولهجاتها.. وليس عن مستعمرات.. لكن الرجل كغيره يعتبر 2022 مثل 1922.. لم يتغير شيء بين السيد والتابع..
هذه “العنجهية” تكررت في نفس الأثناء، وبشكل أكثر استفزازا، عندما غادر سفير فرنسا في نيامي بالنيجر مقعده بالمنصة خلال محاضرة ألقاها لتسويق عملية نقل القوات الفرنسية المطرودة من مالي، ونزل وسط الجمهور لإسكات فاعل جمعوي معروف، بل أكدت صحيفة ليبراسيون الفرنسية، إلى جانب مقاطع مصورة، أن السفير كاد يستعمل يديه لإسكات هذا الصوت “المزعج” الذي أثارت صراحته عاصفة من التصفيقات، عندما طالب فرنسا برفع يدها عن بلده وعن إفريقيا.
خلاصة الكلام، سيكون من الوهم والسذاجة الاعتقاد بأن الأمر يتعلق فقط بخلافات “عابرة” في وجهات النظر، بل هي إحدى تجليات “المواجهة الحضارية” حيث يصر الآخر على تقديم “العربي/ المسلم” في صورة الكائن المتوحش المفتقر لمواصفات الإنسان أصلا، بينما رسمت كأس العالم الأخيرة صورة مغايرة، لذلك حاول البعض التشويش عليها.
وليس هذا مفاجئا، لأن هذا “الآخر” يفقد “موضوعيته” و”تجرده” ويستحضر إرثه الاستعماري تلقائيا، عندما يتعامل مع “الشرقي”.
ففي المغرب مثلا لنا تجربة طويلة مع السياسيين والإعلاميين الفرنسيين الذي يشهرون ورقة “حقوق الإنسان” و”الحريات الفردية” مثلا، حين تقتضي مصالحهم ذلك، بينما لا نسمع لهم صوتا وهم يتابعون النهب المتواصل منذ عقود، الذي تمارسه الشركات الفرنسية لجيوب المواطنين المغاربة ومقدرات بلادهم، بل إنهم يعتبرون كل من يطالب بـ”محاسبة فرنسا” شوفينيا وشعبويا متطرفا.
ختاما، أظن أن المباراة الأهم في كأس العالم الأخيرة لم تجر في الميادين، بل في “البلاطوهات” والمنتديات، وقد أفضت -على الأقل- إلى الأعتراف لـ”الشرقي” بخصوصيته التي لا يمكن إقصاؤها من ساحة “التدافع الحضاري”.