المواطنة في السياق التاريخي المغربي: محطات ووقائع
هوية بريس- محمد أزناك
توطئة:
تعتبر المواطنة من بين المفاهيم الأكثر تداولا في الحقلين السياسي والحقوقي في عالم اليوم ، وذلك لكون هذه القيمة مفهوما محوريا في صلب المعركة من أجل مجتمعات إنسانية ينعم أفرادها بحقوقهم الطبيعية من حرية ومساواة وعدل ومشاركة سياسية …الخ.غير أن مفهوم المواطنة – كغيره من المفاهيم المحورية في عالم اليوم – يطرح إشكالات لم يحسمها النقاش الطويل بسبب كثرة مدارس التحليل السياسي الفلسفي وتنوع المنطلقات وتعدد زوايا النظر.ولعل من أبرز الإشكالات تلك المرتبطة بالمسار التاريخي لمفهوم المواطنة .
فما هي النظرة السائدة بخصوص هذا البعد التاريخي ؟ وهل من أسس واقعية لغيرها من وجهات النظر ؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن مفهوم للمواطنة في الفكر السياسي الإسلامي عامة ، وفي السياق التاريخي المغربي على وجه الخصوص ؟
المنظور الغربي لمفهوم المواطنة والتمركز حول الذات:
تعتبر هذه الملاحظة ربما من أبرز سهام النقد الموجهة للمقاربة التاريخية لمفهوم المواطنة في منظورها الغربي ، كما هو الشأن في غيرها من الحقول المعرفية والإنجازات الحضارية. ذلك أنها على العموم ترجع نشأة المفهوم إلى حقبة دولة المدينة في الحضارة اليونانية ، حين عمل بيركليس (495 ق.م – 429 ق.م ) مؤسس النظام الديمقراطي في أثينا على بث أفكار المشاركة السياسية للمواطنين ودور المؤسسات المنتخبة والمساواة أمام القانون واعتماد معيار الكفاءة في تولي المناصب…الخ.
ورغم ما كان يعتري هذا النظام من نقائص تتجلى في اقتصار ثمارها على فئة محدودة لا تتجاوز الذكور الأحرار دون النساء والأطفال والأجانب والعبيد ، إلا أن المفهوم ذاته سرعان ما شهد نكوصا وانحسارا طيلة العصور الوسطى إلى أن بدأ يتبلور مرة أخرى على أسس جديدة في عصر النهضة خلال القرنين ال 15 و ال 16 الميلاديين في المدن والإمارات الإيطالية حيث برزت الحركة الإنسية القائم جوهرها على إعادة الاعتبار للإنسان . وهو التطور الذي تواصل في القرون التالية ليفرز مفهوم العقد الاجتماعي مع جون جاك روسو ومعاصريه من مفكري عصر الأنوار الذين مهدوا بفكرهم للثورة الفرنسية ابتداء من 1789 م والتي مكنت لقيمة المواطنة على أرض الواقع بإصدار بيان حقوق الإنسان والمواطن.
ولأن الأفكار والتوجهات والقيم لا تستقر على حال ، فقد واصل مفهوم المواطنة تقدمه من مستوى العقد الاجتماعي المرتبط بالدولة القومية في منشئها الأوربي لكي نصل تدريجيا إلى مفهوم المواطنة العالمية مع تبلور المواثيق الدولية المعاصرة وبروز دور المجتمع المدني العالمي. وما زال هذا التطور يتعزز في سياق عصر العولمة ومن بعده العصر الرقمي .
المواطنة من منظور تاريخي أشمل:
مشكلة التحليل السابق أنه يتسم بقدر كبير من الاختزال ودرجة عالية من عدم الموضوعية حين يقصي حقبا تاريخية متطاولة وطيفا واسعا من الإنجازات الإنسانية والتجارب التاريخية مما قد يكون لها من إسهامات مباشرة وغير مباشرة في التأسيس لمفهوم المواطنة أو تثبيته على المستويين النظري والتطبيقي ، حتى ولو لم يرد بتحديداته اللغوية والمصطلحية في هذا التراث الواسع.
هل يمكن في هذا الإطار مثلا استبعاد ومحو الإسهامات المرتبطة بجوهر المواطنة في سياق التجربة التاريخية الإسلامية ؟ بأي منطق علمي يمكن استبعاد الدلالات القوية لمفهوم المواطنة في وثيقة صاحبت نشأة الدولة الإسلامية في بواكير نشأتها ؟ يتعلق الأمر بما سمي في المصادر التاريخية ب ” الكتاب” أو الصحيفة” وفي الأدبيات التاريخية الحديثة ب “دستور المدينة”. وهي الوثيقة المكتوبة التي صدرت في سنة تأسيس دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في يثرب / المدينة المنورة (1 هجرية/622م)ز. و مما جاء في صدارتها:
” هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس.”
ويمضي الكتاب/ الدستور في إقرار قواعد بلغ عددها 52 قاعدة ، يستطيع الدارس أن يرصد من خلالها الكثير من المبادئ التي اعتمدت في تطور وتقدم وتحضر وتحرر إنسان ذلك العصر حتى بمقاييس العصر الحالي ، وذلك من قبيل تنظيم شؤون الدولة وتقنين العلاقات بين أفراد رعيتها على اختلاف فئاتهم وطوائفهم. فقد أقامت مبادئ هذا الدستور علاقات المسلمين في ما بينهم واليهود في ما بينهم على أساس الولاء المرتكز على ثلاثية المحبة والنصرة والمواساة ، والعلاقات بين المسلمين واليهود على أساس مبدإ التسامح المرتكز على مجموعة من الحقوق والالتزامات المتبادلة. ومن ثم ارتقى بمجموع هؤلاء من رابطة الدم والقبيلة والعصبية إلى رابطة الفكرة والأمة والمواطنة.
هل كانت هذه الوثيقة التأسيسية المبكرة فريدة من نوعها في التاريخ الإسلامي المديد ؟ جوابا عليه يمكن الإحالة مثلا على واحد من مؤلفات الدكتور محمد عمارة رحمه الله بعنوان ” الإسلام وحقوق الإنسان، ضرورات…لا حقوق” . وبغض النظر عن مقدمة الكتاب وخاتمته وفصوله التسعة… فإن المؤلف أبى إلا أن يذيل كتابه بجهد توثيقي تضمن 13 وثيقة تناولها بالدراسة والتحليل.
يستطيع الدارس لمحتويات هذا الملحق التوثيقي أن يستخرج الملاحظات التالية:
- الوثائق المعروضة تمتد زمنيا من السنة الأولى للهجرة الى سنة 1220 للهجرة أي أنها شملت التاريخ الإسلامي كله ، بما يدل على أن القواعد والمبادئ والحقوق التي تضمنتها مما له وثيق الصلة بجوهر المواطنة لم يكن فلتة في الزمان ولا جملة اعتراضية في كتاب.
- ليست هذه الوثائق مجرد فكر نظري من إنتاج فقهاء ومتكلمين أو حتى سياسيين معارضين. ذلك أن أغلبها جسد فكر أناس حكموا وقادوا ، وكانت أفكارهم التي خطوها ضبطا وتقنينا لممارساتهم. وحتى الذين لم يحكموا كانوا ثوارا كابدوا الواقع ليضعوا فكرهم في موضع القيادة للمجتمع
- شملت هذه الوثائق ميادين كادت تغطي مبحث “الحقوق الواجبة” للإنسان : ففيها الدستور المدون والمصاغ صياغة قانونية ، وفيها المبادئ المؤسسة ل “العقد” السياسي والاجتماعي بين الحاكم والمحكوم ، وفيها التشريع القانوني وتقاليد القضاء وآدابه وضروراته اللازمة لتحقيق العدالة ، وفيها التنظيم لجهاز الدولة والولايات التنفيذية لسياسة الرعية ، وفيها التحديد الواضح لفلسفة الإسلام في الأموال ، وفيها الصياغة الدقيقة للفكر الاجتماعي الاسلامي وحدود التمايز الطبقي ، وفيها الموقف من “الثورة” وسيلة للتغيير ورد المظالم ، وفيها الحديث عن الشورى بما هي فلسفة لنظام الحكم ، وفيها التأكيد على حق الأمة بل واجبها في أن تكون مصدر السلطة والسيادة … الخ
في السياق التاريخي المغربي ، محطات ووقائع:
لم يكن الجناح الغربي من العالم الإسلامي بمعزل عن التراث المشار إليه آنفا سواء في شقه النظري أو في جانبه التطبيقي . بدأ ذلك بتأسيس دولة الأدارسة في الربع الأخير من القرن الثاني الهجري (172 ه/788م) باعتبارها أول دولة إسلامية بالمغرب الأقصى مستقلة عن مركز الخلافة العباسية في بغداد . وكانت مبايعة إدريس بن عبد الله سليل الأسرة النبوية من طرف قبيلة أوربة على القيام بأمرهم وصلواتهم وغزواتهم وأحكامهم قبل أن تتوالى عليه بيعة قبائل البربر من أهل المغرب
من هناك بدأ التكوين التاريخي للدولة المغربية في عصورها الوسطى ، ومعه انطلق الشعور بكيان وطني بحدود سياسية وجغرافية تتطور عبر القرون قوة وضعفا ، توسعا وانحسارا .. مع استمرار المغرب الأقصى نواة صلبة لهذا الكيان الذي شرع أيضا في التأسيس لاختياراته العقيدية والمذهبية والسلوكية لتترسخ بعد ذلك تدريجيا في العهدين المرابطي والموحدي
مع مرور الزمن كانت هناك مناسبات كثيرة لترسيخ الشعور الوطني لدى المغاربة. فمثلا عندما وضعت “حروب الإسترداد” حدا للوجود الإسلامي في الأندلس في نهاية القرن ال 15 م بعد قرون من الإسناد المغربي على يد المرابطين والموحدين والمرينيين ، وتزامن ذلك مع ضعف الدولة المغربية وانطلاق الغزو الإيبيري للسواحل المغربية ..حدثت هبة تاريخية من قبائل منطقة سوس . لجأ زعماء هذه القبائل إلى الزوايا الفاعلة في المنطقة والتي أحالتهم على الأشراف السعديين بمنطقة درعة ، فتأسست بذلك الدولة السعدية.
ثم جاءت هبة أخرى أكثر قوة حين زحف الجيش البرتغالي بكل قواه طامعا في اجتياح حواضر المغرب وبواديه. وانتهى الأمر في معركة المخازن القصيرة يوم 4 غشت 1578 إلى سحق المعتدي بفضل عوامل عديدة على رأسها التلاحم بين السلطة القائمة والزوايا ذات الامتداد الشعبي وجموع المتطوعين الأفراد . وعلى حين اختفت دولة البرتغال مؤقتا من الجغرافيا استعاد المغرب عنفوانه وحاز إلى جانب قوة اقتصادية وتوسع سياسي ، سمعة دولية هائلة اكسبته مناعة ضد الغزو الأجنبي لعقود طويلة رغم فترات الضعف التالية.
إلى جانب الحس الوطني الذي برز بقدر كبير من الحدة في الملمات ، دأبت الطبقة المثقفة ممثلة في الفقهاء والعلماء وأعيان المجتمع على الانتصار لقيم الحرية والمساواة والعدل في مواجهة هوامش واسعة من الاستبداد السياسي ونزعات التخريب. من جهة أخرى كان الجانب التعاقدي دائم الحضور في التاريخ السياسي المغربي من خلال البيعة الشرعية بأركانها المعروفة . غير أنه برز هو الآخر بقوة أكبر في مناسبات عديدة
من أمثلة هذه المناسبات ما عاشه المغرب في لحظة فارقة عند نهاية القرن ال 19 م وبداية القرن ال 20. كان البلد يتجه نحو السقوط بين براثن الاستعمار بعد عقود من الضغوط الامبريالية التي لم تتوقف طيلة النصف الثاني من القرن ال 19 . وكانت نخب المجتمع منخرطة في ضغوط مضادة على السلطة القائمة تحت حكم السلطان مولاي عبد العزيز بهدف إدخال تغييرات مطلوبة في النسق السياسي والممارسة السياسية . واستمرت هذه الضغوط بعد خلع هذا الأخير ومبايعة أخيه مولاي عبد الحفيظ التي كانت بيعة مقيدة بشروط عديدة تقتضيها ظرفية ما بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906. في هذه الظروف صدرت وثيقة من 93 مادة موزعة على 11 بابا ، عرفت في التاريخ السياسي للمغرب المعاصر ب ” مشروع دستور جماعة لسان المغرب” ، وكانت وثيقة دستورية تستوفي شروط الشكل والصياغة والمضمون . وتعطي الوثيقة الدليل على أن المغرب عرف محاولات فعلية للبناء الدستوري قبل فترة الحماية الاستعمارية .
وفرت مرحلة الحماية بتحدياتها المستفزة مناسبات عديدة لانبعاث قوي للروح الوطنية وقيم المواطنة ، سواء خلال فترة المقاومة المسلحة أو خلال فعاليات الحركة الوطنية . نسجل هنا الهبة التاريخية في وجه الظهير البربري الصادر في 16 ماي 1930 والتي تطورت في مسارات عديدة ، ثم الانتفاضة الأوسع المصاحبة لعريضة المطالبة بالاستقلال ابتداء من 11 يناير 1944 ، وبعدها ثورة الملك والشعب التي أفضت إلى إلغاء الحماية والاعتراف بالمملكة المغربية دولة مستقلة . ونظرا لأن هذا الاستقلال كان منقوصا بسبب استمرار الاحتلال لأجزاء واسعة من البلاد ، فقد استمرت التعبئة الوطنية إلى أن تمكنت المسيرة الخضراء من استرجاع الصحراء المغربية.
خاتمة:
تنطوي قيمة المواطنة على مستويات عديدة تبدأ من المستوى الوجداني المتمثل في الشعور بالانتماء، وتتدرج صعودا لتستوعب كل الجهود والفعاليات الرامية إلى ضمان كرامة المواطن من خلال التمكين لقيم مجاورة مثل الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة السياسية في سياق وعي يقابل على نحو خلاق بين التماس الحقوق وأداء الواجبات . وهو الوعي الذي ما فتئ الشعب المغربي يعبر عنه في مناسبات عديدة لعل آخرها ما برز من قيم ايجابية خلال أزمة الجائحة الحالية . لكنه وعي يحتاج إلى مزيد من الجهد التربوي القاصد لتثمين الإيجابيات ومحاصرة السلبيات من أجل الانخراط الفاعل في الاستحقاقات المستقبلية.
المراجع المعتمدة
- مفهوم المواطنة وتطوره التاريخي من العصور اليونانية القديمة حتى تاريخنا المعاصر ، مقال للدكتور علي الصلابي في الجزيرة نيت على الرابط:
https://www.aljazeera.net/blogs/2020/10/1/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%B7%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A-%D9%85%D9%86
- الإسلام وحقوق الإنسان ، ضرورات…لا حقوق . الدكتور محمد عمارة. سلسلة عالم المعرفة. عدد 89. ماي 1985
- مجلة تاريخ المغرب ، إصدار جمعية الامتداد الثقافي. عدد 1. فبراير 1981