النزعة الأمازيغية وأزمة الهوية في المغرب: بين الأيديولوجيا والهويّة الوطنية

17 أكتوبر 2025 18:59

النزعة الأمازيغية وأزمة الهوية في المغرب: بين الأيديولوجيا والهويّة الوطنية

د.عبد السلام بامعروف – باحث مهتم بالشأن السياسي و الثقافي الوطني

في السنوات الأخيرة، برزت في المغرب تيارات ثقافية وسياسية تدّعي الدفاع عن الأمازيغية وحقوقها الثقافية واللغوية، لكنها تمثل في الواقع ما يمكن وصفه بـ“أصحاب النزعة الأمازيغية”، وهو تيار أيديولوجي يقوم على مفهوم هوياتي متخيل للأمازيغية، لا يعكس الواقع الوطني ولا يعبر عن الأمازيغية كمشترك وطني يعيش فيه ملايين المغاربة يوميًا. هذا التيار، يقدم نفسه على أنه مناصر للأمازيغية، لكنه في الممارسة يعتمد على فصل الثقافة الأمازيغية عن سياقها التاريخي، وتحويلها إلى أداة للصراع الرمزي والسياسي، بعيدًا عن التجربة الحية للمغاربة وموروثهم الثقافي.

من المهم التمييز بين هذا التيار وأمازيغية المغرب الحقيقية. الأمازيغية كمكوّن هوياتي وطني ليست مجرد لغة أو عرق، بل هي ثقافة وحياة ممتدة في الأسواق والقرى والجبال، حاضرة في العادات اليومية والطقوس الشعبية، وفي الفن والموسيقى والأدب الشفهي، وهي جزء أصيل من النسيج المغربي المتداخل منذ قرون، متفاعلة باستمرار مع العربية والإسلام وبقية المكونات الثقافية والاجتماعية. بينما يقوم أصحاب النزعة الأمازيغية باختزال هذا المكوّن في إطار أيديولوجي ضيق، يحوّل الأمازيغية من تجربة وطنية مشتركة إلى مشروع للتمايز والانقسام، مستندًا في كثير من أفكاره إلى تصورات مستوردة من الفكر الاستعماري الفرنسي، الذي عمل على خلق واقع جديد عن الهوية المغربية لم يكن موجودًا في التاريخ، بهدف تفكيك الوحدة الوطنية وتحويل التنوع الثقافي إلى أداة للسيطرة.

لقد سعت فرنسا عبر سياساتها الاستعمارية إلى إعادة رسم هوية المغرب، فاختزلت التاريخ المعقد والمتداخل إلى ثنائيات مصطنعة بين “العرب” و”الأمازيغ“، بغرض تسهيل النفوذ والسيطرة. كتب الكابتن الفرنسي Victor Piquet في باريس عام 1925 في كتابه “الشعب المغربي. الكتلة البربرية ” ” Le Peuple Marocain Le Bloc Berbér  أن الشعب المغربي ليس عربيًا، وأن الأمازيغي المغربي الذي لم يُعرّب بعد يجب أن يكون قادرًا على الوصول إلى الحضارة الفرنسية شريطة ألا يتأثر بالطابع العربي. ولم يقتصر الأمر على Piquet، فقد قال الباحث القانوني الفرنسي Georges Sordon في محاضرة عام 1929 أمام ضباط شؤون الاهلية في المغرب: “ليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل من يتحدثون العربية عربًا“، في إشارة صريحة إلى فصل الأمازيغ عن العرب وخلق تصنيف ثقافي قابل للاستغلال السياسي. وقد أعيد إنتاج هذه الأفكار اليوم في بعض خطاب أصحاب النزعة الأمازيغية، الذين يرفعون شعارات الحداثة وحقوق الثقافة، بينما يكررون منطق الفصل بين المكونات الوطنية، متناسين أن الأمازيغية المغربية حية، متجذرة في تجربة وطنية مشتركة تمتد عبر التاريخ.

أحد أبرز أخطاء هذا الخطاب هو ربط الهوية المغربية بالأرض، والقول بأن الأرض أمازيغية، ومن ثم اعتبار الهوية الوطنية هي بالضرورة أمازيغية. هذا المفهوم يفتقد للواقعية العلمية والتاريخية، فالتاريخ المغربي يوضح أن الأرض لم تكن يومًا ملكًا لمكوّن واحد، وأن الهوية الوطنية تشكلت عبر مشاركة جميع المكونات في التاريخ، الدين، اللغة، والثقافة، وليس عبر الانتماء العرقي أو ملكية الأرض. أي اختزال للهوية الوطنية إلى بعد واحد من هذا النوع يعد تحريفًا للتاريخ وإعادة إنتاج لسرديات استعمارية.

التاريخ المغربي يقدم نموذجًا واضحًا على التكامل بين الأمازيغية وبقية المكونات. المرابطون أسسوا دولة مغربية إسلامية شاملة، والموحدون وحدوا شمال إفريقيا تحت سلطة موحدة، والمرينيون والسعديون حافظوا على استقرار المغرب وتعدد هوياته الثقافية، وصولًا إلى العلويين الذين صانوا وحدة المغرب وتنوعه في الوقت نفسه. هذه الحقائق تثبت أن الأمازيغية لم تكن أبدًا هوية منفصلة أو معزولة، بل جزء أصيل من الهوية الوطنية الجامعة، التي تجمع مختلف المغاربة في تاريخ مشترك وثقافة متداخلة. أي محاولة لفصل الأمازيغية وتحويلها إلى أيديولوجيا انقسامية هي تشويه للواقع التاريخي وإعادة إنتاج للخطاب الاستعماري الفرنسي تحت لباس الحداثة.

المغاربة لم يعيشوا يومًا في صراع دائم بين “عرب” و”أمازيغ“، بل عاشوا في إطار هوية مركبة ومتعددة، تشكلت عبر قرون من التفاعل الحضاري والثقافي. فلا وجود لأمازيغية نقية أو عروبة خالصة، بل هناك نسيج وطني متداخل يضم الجميع تحت سقف واحد، حيث تتحد الأديان واللغات واللهجات والتقاليد في منظومة هوية جامعة. أي اختزال لهذا الواقع في ثنائيات عرقية ضيقة يمثل تبسيطًا خطيرًا يهدد التماسك الاجتماعي ويحوّل التنوع الثقافي إلى أداة للصراع بدلاً من أن يكون قوة للتقارب والانتماء المشترك.

الحاجة اليوم ليست لمزيد من النزاعات الهوياتية، بل إلى خطاب أمازيغي ووطني حقيقي، يقوم على الاعتراف المتبادل بين مكونات المجتمع المغربي، والانفتاح الثقافي، ونقد الذات، والتحرر من خطاب المظلومية المستمرة، الذي يختزل التاريخ والهوية في ثنائية صراع مستمرة. الدفاع الحقيقي عن الأمازيغية يتطلب إدراك أن هذا المكوّن الحي ممتد في وجدان المغاربة منذ قرون، ممتزجًا بالعربية والإسلام والتاريخ المشترك، وأن إنصافه لا يتم بالقطيعة أو التمييز الرمزي، بل عبر تعزيز العدالة الثقافية، وتطوير التعليم، وحماية التنوع، وترسيخ قيم المواطنة.

إن أزمة أصحاب النزعة الأمازيغية ليست أزمة لغة أو ثقافة، بل أزمة وعي وهُوية، إذ يحاول البعض تحويل الأمازيغية من مكوّن وطني أصيل إلى أداة للصراع والانفصال الرمزي، بينما الأمازيغية الحقيقية هي جسر للتلاقي وليس سلاحًا للانقسام. ولن تُنصف إلا حين تتحرر من قبضة الأيديولوجيا، وتعود إلى مكانتها الطبيعية في قلب الهوية المغربية، متجاوزة الثنائية المزيفة، ومؤسِّسة لانتماء جماعي متماسك يقر بالاختلاف ويحوّله إلى قوة تعزز وحدة الوطن واستقراره. الفهم الصحيح للأمازيغية كمكوّن هوياتي، بعيدًا عن النزعة الأيديولوجية الضيقة والأفكار المستوردة من الاستعمار الفرنسي، هو ما يجعل الدفاع عنها مشروعًا حقيقيًا يثري الهوية الوطنية ويعيدها إلى مكانتها الطبيعية كموروث ثقافي وحضاري يربط كل المغاربة بتاريخهم المشترك، ويضمن استمرار التنوع في خدمة الوحدة الوطنية.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
18°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة