النموذج التنموي.. رهانات كبيرة بحسابات صغيرة
هوية بريس – حليمة اشويكة
لا يمكننا المجازفة بإصدار حكم متسرع على الدينامية السياسية الصانعة للقرار بالمغرب، والادعاء بأنها كانت على الدوام –منذ الاستقلال إلى اليوم- مليئة بالتناقضات التي يمكن ملاحظتها بسهولة عند مقارنة الغايات الكبرى التي تعلنها الخطابات الرسمية، مع التفاعل الذي يعكسه السلوك السياسي للفاعلين الأساسيين. لكن رغم صعوبة إطلاق هذا الحكم، إلا أن هذه المفارقة التي تمت الإشارة إليها، غالبا ما كانت السمة البارزة لأهم المحطات المفصلية في تاريخ المغرب الحديث. فمنذ الاستقلال، لم تستطع العديد من البرامج والمخططات كسب الرهانات الكبرى التي تم التخطيط لها بسبب الحسابات الصغيرة التي ظلت تلعب دور الفرامل المانعة لصناعة قرار سياسي حقيقي قادر على خلق الطفرة المأمولة في المسار التنموي والديمقراطي للبلاد. ففي كل مرة يتم تقييم ومراجعة البرامج الاستعجالية والمخططات الإستراتيجية، ليتم إعلان فشلها والبحث عن سبل جديدة وأفكار جديدة ومؤسسات جديدة قادرة على تجاوز الفشل وهكذا ظلت الممارسة السياسية تراوح مكانها.
لفهم هذا الوضع المتناقض يكفي التوقف عند الخطاب الملكي السامي في 20 غشت 2019 الذي أعلن فيه جلالة الملك عن مشروع تشكيل لجنة عليا من الكفاءات القادرة على صياغة نموذج تنموي جديد، يتجاوز إخفاقات النموذج التنموي الحالي ويقدم أفكارا وبرامج قادرة على حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن التوزيع اللامتكافئ للثروة. وبموازاة ذلك اعتبر الخطاب أن التعديل الحكومي يجب أن يكون آلية لتعزيز الحكومة بالكفاءات القادرة على كسب هذا الرهان. مشددا على أن عمل اللجنة لن يعوض عمل الحكومة ولن يحل محلها. لكننا إلى اليوم، لم نر أثرا للفاعلين السياسين في هذا النقاش، فلا حديث عن النموذج التنموي إلا برفع شعارات فضفاضة أو ترديد خطابات عامة ونمطية عوض العمل على توسيع مساحة التفكير والابتكار في تصور هذا النموذج المنشود باعتباره تعاقدا جماعيا يسعى إلى تقليص الفوارق الاجتماعية. وقبل ذلك لم نسمع أي نقاش فتح حول الأسباب التي أدت فشل النموذج التنموي الحالي وهو النقاش الذي بدونه يستحيل التفكير في ابتكار نموذج تنموي جديد. كل النقاش المهيمن اليوم تم اختزاله في المشاورات الجارية حول التعديل الحكومي، مع ما يرافقه من تخمين وتنجيم أحيانا حول من سيدخل ومن سيخرج ومن الخاسر والرابح فيه. وكلما اقترب الموعد إلا ويزداد هذا النقاش غرابة وضئالة، وتبدأ سيناريوهات النسخة الجديدة في التنافس على صحف الجرائد. إنها إذن الحسابات الصغيرة التي لن تفضي أبدا إلى كسب الرهانات الكبيرة..
إن التفكير في نموذج تنموي جديد هو في واقع الأمر قرار سياسي يعكس استجابة لمنبه خضع له الجسد الاجتماعي الذي يعاني من خلل في التوازن بسبب اتساع الفوارق الاجتماعية و المجالية بالرغم من الميزانيات المرصودة والجهود المبذولة للتقليص منها. ومن ثمة فالتفكير في نموذج جديد هو في حقيقة الأمر سعي إلى الاستجابة لهذا المنبه ومحاولة للتخلص من توترات اجتماعية ناتجة عن سياسات كانت سببا في انبثاقها واتساعها. وبكل تأكيد فإن هذا التفكير هو الوظيفة الأساسية الملقاة على عاتق المؤسسات السياسية التي يجب أن تقترح البديل المناسب من خلال فتح نقاش جماعي يشمل جميع المستويات. لكن هذا النقاش لن ينجح في غياب المعطيات المطلوبة والكافية لفهم المشكل والقدرة على صناعة الحلول التي سيكون من مهام المقررين المفاضلة بينها. وعندما يطرح سؤال المعطيات والمعلومات المرتبطة بالنموذج التنموي، لابد من استحضار دور الأحزاب السياسية التي يفترض أن تكون سباقة وفاعلة ومؤثرة في هذا النقاش، تؤطر المجتمع وتتوسط العلاقة بينه بين السلطة الحاكمة وتساهم في توفير المعطيات و نشرها ومناقشتها وتعمل على دفع السلطة إلى اتخاذ قرارات متوازنة تسهم في إخراج نموذج تنموي يتجاوز أعطاب سابقه. لكن عوض أن تتحمل الأحزاب السياسية مسؤوليتها في مساءلة النموذج التنموي الذي تم إعلان فشله، وعوض أن تطرح الأسئلة الحقيقة عن أسباب فشله، وعوض أن تساهم في تقاسم المعلومات المتعلقة بالسياسات التي أدت إلى هذا الفشل والتفكير في البدائل الممكنة…عوض كل ذلك نجدها غارقة اليوم في الحسابات الصغيرة، منشغلة بالهندسة الحكومية وبالحقائب الوزارية، ليس لأنها تريد ملاءمتها مع الحاجات والغايات التنموية، ولكن بهدف الحفاظ على “مكاسب” التواجد داخل البيت الحكومي بالحجم ذاته أو بحجم أكبر، أو بهدف الهيمنة على بعض القطاعات “الوازنة” بدعوى حاجتها “للكفاءات”.
اليوم ونحن على بعد أسابيع قليلة من الدخول السياسي المقبل، الذي يفترض أنه دخول مختلف بسبب أجندته السياسية الحافلة بالرهانات والتحديات الكبرى، والتي تتطلب نقاشا سياسيا يرقى لمستوى هذه التحديات، نلاحظ كيف تتعاطى الأحزاب والنخب السياسية مع هذه المرحلة بين منشغل بتصفية حسابات حزبية من أجل تغيير قيادة حزبه، ومتهافت على توزيع الأقلام والدفاتر مستغلا الفقر والهشاشة في سباق انتخابوي قبل أوانه، ويبن مفاوض سري على حقائب يخشى ضياعها، وغالبية صامته منتظرة. بينما يواصل المتحكمون في المشهد السياسي صناعة القضايا التي تستنزف تفكير وطاقة القلة المناضلة، أو اختلاق القنابل الصوتية المشوشة التي تصرف الانتباه إلى قضايا فرعية،،،