الهاتف الذكي… هل يكفي العمر؟ أم أن الرشد هو المعيار؟

الهاتف الذكي… هل يكفي العمر؟ أم أن الرشد هو المعيار؟
هوية بريس – د. الحضري لطفي
مقدمة
يُطرح اليوم سؤال محوري يزداد إلحاحًا في المجتمعات المسلمة والعالمية: في أي سنّ يمكن أن يُسمح للأطفال والمراهقين باستعمال الهاتف الذكي؟ هذا السؤال لم يعد تقنيًا بحتًا، بل أصبح سؤالًا فطريًا وشرعيًا وأخلاقيًا، لأنه يمسّ بنية التربية، ومسار النضج النفسي، وعلاقة الناشئة بالعالم الخارجي.
ومن المهم التنبيه هنا إلى أن الهاتف الذكي ليس شرًّا كله، بل هو أداة تحمل في طياتها فرصًا كبيرة للتعلم، والتواصل، وتنمية المهارات. غير أن وجه المقال الذي بين أيدينا ينصبّ على الآثار السلبية المحتملة، وعلى الإشكالية التربوية الأبرز: متى وكيف يتخذ الوالدان قرار منح الطفل الهاتف أو منعه؟
تتباين آراء المتخصصين في علم النفس والتربية والطب: فمنهم من يرى أن العمر الأدنى المقبول هو 13 سنة، بينما يذهب آخرون إلى تأجيل الاستعمال الكامل حتى 21 سنة. لكن هذا التباين يثير سؤالًا أعمق: كيف نرجّح بين أقوال هؤلاء المتخصصين؟ وعلى أي أساس نتخذ القرار الصحيح الذي يحفظ مصلحة الطفل ولا يضر بمستقبله؟
الأعمار والهواتف
تشير الأبحاث إلى أن السن الحرجة ترتبط بمرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة، أي ما بين 11 و14 سنة، حيث تكون آثار امتلاك الهاتف الذكي أكثر وضوحًا. فقد أظهرت دراسة واسعة أن الحصول على الهاتف قبل سن 13 ارتبط بزيادة احتمالات مواجهة صعوبات لاحقة في الصحة النفسية مثل الأفكار الانتحارية، السلوك العدواني، ضعف التنظيم الانفعالي، وتراجع الثقة بالنفس (EurekAlert, 2024؛ Times of India, 2025). كما بينت أبحاث أخرى أن اقتناء الهاتف المبكر ارتبط بمشكلات النوم والتنمر الإلكتروني وتدهور الروابط الأسرية (EurekAlert, 2024).
تتجه بعض الحكومات والمنظمات الدولية إلى وضع حدود عمرية أكثر تحفظًا؛ فالدنمارك أوصت بعدم منح الأطفال هواتف ذكية قبل سن 13، فيما اقترحت لجنة استشارية في فرنسا تأخير الاستخدام الرقمي لأعمار لاحقة (Le Monde, 2024). أما في الولايات المتحدة فهناك مبادرات مجتمعية مثل “Wait Until 8th” التي تدعو إلى الانتظار إلى الصف الثامن قبل تسليم الهاتف الذكي، مع البدء بأجهزة أبسط يمكن التحكم فيها (Child Mind Institute, n.d.). كما تشير توصيات تربوية أخرى إلى أن دخول الأطفال إلى منصات التواصل الاجتماعي ينبغي أن يتأخر إلى ما بعد 16 عامًا (Times of India, 2025).
وتظهر بيانات جامعة ستانفورد أن المتوسط العالمي لاقتناء أول هاتف هو ما بين 12-13 سنة، دون وجود ارتباط قاطع بين العمر وحده وبين اضطرابات الصحة النفسية، مما يعزز الفكرة القائلة بأن عامل النضج الشخصي والوعي الاجتماعي أهم من عامل السن الزمني وحده (Stanford Medicine, 2022). ولذلك، يميل أغلب المختصين إلى اعتبار أن القرار لا ينبغي أن يستند إلى رقم مطلق مثل 21 عامًا، بل إلى درجة استعداد الطفل وقدرته على تحمل المسؤولية وإدراكه للمخاطر المرتبطة بالاستعمال غير المنضبط.
الرشد القرآني
حين نتأمل قوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: 6]، يتبيّن أن القرآن الكريم جعل الرشد معيارًا أساسًا للأهلية، لا مجرد بلوغ العمر الزمني. فالعمر، في حدّ ذاته، لا يفسّر بالضرورة معنى المسؤولية، ولا يقتضي اكتمال الوعي الأخلاقي أو القدرة على تحمّل التبعات. ومن هنا تنشأ الإشكالية: الخلط بين مجرد التغير البيولوجي المرتبط بالعمر، وبين تحقق الرشد كوعي سلوكي وأخلاقي يترتب عليه استحقاق الأهلية.
الرشد في التصور القرآني أوسع بكثير؛ فهو حصيلة ثلاثية:
1. وعي بالواجب.
2. قدرة على الاختيار.
3. الثقة في أوامر الوالدين.
4. استعداد لتحمّل النتائج.
لذلك قد يكون الشاب في الخامسة عشرة قائدًا إذا آنسنا منه رشدًا، بينما قد يُمنع رجل في الثلاثين من إدارة ماله إذا فقد رُشدَه.
وللتاريخ الإسلامي شواهد تؤكد هذا المعنى؛ فقد وُلِّي أسامة بن زيد رضي الله عنه قيادة جيش فيه كبار الصحابة وهو في نحو السابعة عشرة، ولم يُنظر إلى عمره بقدر ما اعتُبر رشده وكفاءته. كما شارك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ميادين العلم والقضاء والجهاد في سن مبكرة، وكان مرجعًا في الفتيا وهو شاب. وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لُقِّب بحَبْر الأمة وترجمان القرآن، وقد جلس للتفسير والتعليم وهو في مقتبل العمر. وهناك أيضًا محمد الفاتح الذي تولى الحكم وهو في الثانية والعشرين، لكنه فتح القسطنطينية وهو لا يزال في ريعان شبابه، محققًا بشارة النبي ﷺ. هذه النماذج تكشف أن الرشد ليس رقمًا في الهُوية، بل طاقة ووعي واستعداد للتكليف.
الرشد وضبط الرغبات
في مرحلة المراهقة، لا يكفي أن نقيس النضج بامتلاك الهاتف أو عدمه، بل الأهم هو مدى استجابة الأبناء لتوجيه الوالدين. فحين يطلب الوالدان من المراهق أن يضع الهاتف بين أيديهما في ساعة محددة، كالحادية والعشرين مساءً، فإن طاعته تمثل اختبارًا حقيقيًا لرشده. أمّا إذا رفض الامتثال، فذلك قد يستوجب المنع المؤقت أو النهائي، لا عقابًا بقدر ما هو تدريب على تنمية القدرة على إدارة الشهوة والرغبة.
وهنا يبرز الفرق الجوهري بين “الشخصية الرغائبية”، التي تترك نفسها أسيرة الأهواء والشهوات دون ضابط، وبين الرشد القرآني الذي يعني التحكم في الرغبات وضبطها وفق ميزان الوعي والتكليف. “الشخصية الرغائبية” تنقاد وراء اللحظة، أما الرشد فيمثل القدرة على إرجاء الإشباع، وضبط الرغبة، وتحويلها إلى طاقة بنّاءة. وهذا هو منتهى التربية: أن نعلّم أبناءنا أن الحرية الحقيقية لا تكون في إطلاق الرغبات، بل في القدرة على تقييدها حيث يجب، وتوظيفها فيما ينفع.
ويجسد ذلك ما وقع في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رفضت فتاة خلط اللبن بالماء، قائلة لأمها: “إن كان عمر لا يرانا، فإن الله يرانا”. هذا الموقف البسيط كشف عن شخصية راشدة اختارت ضبط الرغبة في الكسب السهل، وقدّمت وازع الضمير على هوى النفس. وهكذا تتجاوز التربية دور الرقابة الخارجية إلى بناء رقابة داخلية تعصم المراهق من الانزلاق، وتجعله يعيش يقينًا دائمًا بأن الله مطّلع على السر والعلن.
مسلمة: “الرغبة بلا ضابط هي عبودية، وضبطها هو عين الحرية”.
خاتمة
التوصيات الأكثر شيوعا تركز على سن 13–14 عامًا مع مراقبة الاستخدام، مع الإقرار بأن معيار النضج النفسي والاجتماعي هو الحاسم. الهاتف الذكي في جوهره وسيلة، وليس غاية. منحه لا يُقاس بالسن وحده، بل بمقدار ما نأنس من رشدٍ في نفوس أبنائنا. والتربية الإسلامية تعطي ميزانًا خالدًا: الرشد معيار الأهلية. بذلك نحقق التوازن بين معطيات العلم الحديث، وتجربة التاريخ، والهدي القرآني، ونبني ناشئة قادرة على أن تجعل من الهاتف وسيلة بناء لا وسيلة هدم.



