الهجرة النبوية الشريفة: وقفات مع الحدث والأسباب والعبر
هوية بريس – بدر الدين الحميدي
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله النبي الأمي الأمين، وعلى وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض والدين.
في فاتح محرم من كل عام هجري، يستحضر العقل المسلم والقلب المؤمن أحداثا عظيمةوثقتها مصادر عظيمة موثوقة في الشريعة الإسلامية من كتاب الله تعالى، وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب السيرة النبوية المطهرة.في هذه العجالة أود الحديث باقتضاب عن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تعلقا بهذا النور المبين وإعادة لتمثل الأحداث العظيمة التي أثثت هذه المشاهد الإيمانية والتضحيات الجسام التيقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الذين هاجروا في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله تعالى، قال سبحانه: ﴿لِلْفُقَرَآءِ ٱلْمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَأَمْوَٰلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ﴾[1].
في هذه الورقة المقضبة، اقتصرت على قضايا ثلاثة، إيراد ما يتعلق بالمؤامرة باختصار شديد لطوله وللعلم به من خلال كتب السيرة المعروفة، ثم الوقوف مع بعض أسباب الهجرة النبوية الشريفة، وفي القضية الثالثة،وقفت مع بعض ما يستخلص من دروس وعبر وحكم من هذا الحدث العظيم. وسأقتصر فيما يرتبط بأحداث الهجرة بما يبين المؤامرة التي حيكت ضد رسول الله تعالى لاغتياله، أو حبسه ومنعه من الخروج، أونفيه خارج أرض وطنه؛ مكة المكرمة.
أولا: المؤامرة ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدبير الباري لها
ننطلق في هذه القضية من آية كريمة بين الله تعالى فيها المكيدة التي دبرها قريش لاغتيال رسول الله صلى الله وسلم في بيته الشريف وموطنه الحبيب، موضحة نصر الله تعالى لنبيه ولمن معه من المؤمنين؛ وذلك برده تعالى على هذه المؤامرةالخبيثة وفضح عناصرها، وكشف خيوطها وإفشالها؛ بحيث وجه تعالى رسولهصلى الله عليه وأرشده إلى كيفية الخروج من المشكلة وتدبير هذه الأزمة الجسيمة التي تستهدف صاحب النور العظيموحامل الرسالة العالمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[2]
وبالرجوع إلى كتب أسباب النزول فيما يرتبط بهذه الآية، نقف على القصة والقضية التي نزلت الآية الكريمة لمعالجتها وإظهار طغيان وضلال من كان وراءها من المشركين الذين عميت بصائرهم وأخذت أبصارهم بما حملوه من حقد وكراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم جميعا؛ نظرا لما جاء به من حق وبرهان، ولتعلق المؤمنين بهذا النور وإظهار الاستعداد للتضحية من أجله والموت في سبيله، والتخلي عما يملكون لنشره في الناس؛ لأنهم يحبون للناس ما يحبون لأنفسهم.
في هذا الإطار، ذكر الواحديفي سبب نزول هذه الآية الكريمة التي تؤرخ لحدث عظيم في الإسلام حدث الهجرة النبوية الشريفة أن “مشركي قريش تآمروا في دار الندوة (التي جرى فيها النقاش البرماني والإجماع على قرار غاشم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم) في شأن محمد عليه السلام، فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون، وقال بعضهم : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل: ما هذا برأي؛ ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كلِّ بطنٍ رجلٌ فيضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ، فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلِّها، فأوحى الله تعالى إلى نبيِّه بذلك وأمره بالهجرة فذلك قوله: ﴿ليثبتوك﴾ أَيْ: ليوثقوك ويشدُّوك ﴿ أو يقتلوك ﴾ بأجمعهم قتلةَ رجلٍ واحدٍ ،كما قال اللَّعين، أبو جهل ﴿ أو يخرجوك ﴾ من مكَّة إلى طرفٍ من أطراف الأرض ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ أَيْ: يجازيهم جزاء مكرهم بنصر المؤمنين عليهم ﴿ والله خير الماكرين ﴾ أفضل المجازين بالسيئة العقوبة وذلك أنَّه أهلك هؤلاء الذين دبَّروا لنبيِّه الكيد وخلَّصه منهم.[3]
فكما هو ملاحظ من قراءة الآية الكريمة، فقد دبر الله تعالى هذه المؤامرة بالحق –كما قال الضحاك رضي الله عنه- ومن ذلك أنه تعالى بعثجبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بقضية المؤامرة وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، فأذن الله عند ذلك بالخروج إلى المدينة، فأمر رسول الله صلى لله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعهوقال له: اتشح ببردتي هذه، فإنه لن يخلص إليك منهم شيء تكرهه[4]، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه، فجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِىٓ أَعْنَٰقِهِمْ أَغْلَٰلًا فَهِىَ إِلَى ٱلْأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾[5] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر[6]، وخلف عليا بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده، وكانت الودائع توضع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون عليا رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليا رضي الله عنه، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ وَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ فَلَمَّا بَلَغُوا الْغَارَ رَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَهُ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا ثم قدم المدينة، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، ﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾، لِيَحْبِسُوكَ وَيَسْجِنُوكَ وَيُوثِقُوكَ،﴿ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ﴾. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللَّهُ، وَالْمَكْرُ التَّدْبِيرُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ التَّدْبِيرُ بِالْحَقِّ، وَقِيلَ: يُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الْمَكْرِ، ﴿ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ﴾[7].
هذا ملخص هذا الحدث العظيم في الإسلام، فقد اشتمل على محاولة اغتال صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ومقابلتها بالعناية الربانية التي تجلت في جملة من المعجزات العظام التي رافقته وأيدته عليه الصلاة والسلام، وإثباتها لا يحتاج إلى دليل لتواتر أخبارها بين الناس حتى بين أولائك الذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية.فقد أرد الماوردي عددا من هذه المعجزات التي لا قبل للناس بها، لمخالفتها لما عهده الناس من شؤون حياتهم، قال:”فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمتُه من أعدائه، وهم الجمُّ الغفير، والعددُ الكثير، وهم على أتم حَنَقٍ عليه، وأشدُّ طلبٍ لنفيه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهر، ولهم مخالطٌ ومكاثر، ترمُقُه أبصارُهم شزراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً، لم يكْلَم (يُجْرَح) في نفسٍ ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمةٍ إلهيةٍ وعَدَه الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[8] فعَصَمَه منهم”.[9]
ثانيا: أسباب الهجرة النبوية الشريفة
بعد الوقوف على الظروف التي جرت فيها الهجرة النبوية الشريفة، يتساءل المسلم (ة) عن الأسباب التي أدت إلى التفكير في هذه المؤامرة الغاشمة، والتي يمكن اعتبارها عنوانا عريضا لحجم المعاناة التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم جميعا. هناك عدة أسباب شرعية جاء على إثرها الإذن الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة، معلنا بذلك انطلاق مرحة جديدية في مسار الدعوة الإسلامية، والتي أجمع علماء السير على أنها شكلت نقطة تحول إيجابية جدا؛ إذ هي مرحلة فارقة بين الحق والباطل، أقتصر على ذكر بعضها فقط في المقام، وهي:
- نهج قريش أساليب متعددة لإيقاف الدعوة الإسلامية
تذكر كتب السيرة النبوية أن معالم الهجرة بدأت مع الدعوة بقسميها، وخاصة الدعوة الجهرية والنجاح الذي حققه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وما جاورها من قبائل، حيث لا حظ قريش تزايد أعداد المسلمين، مما يدل على أن إقبار الدعوة الإسلامية في مهدها الأول( مكة المكرمة) بات بعيد المنال. هذا النجاح المتمثل في تخطي الدعوة حدود مكة المكرمة الجغرافية أثار حفيظة قريش الذين فرقواوخافوا انشار الدعوة الإسلامية خارج مكة المكرمة؛ ولهذا قاموا بمحاولات بائدة عديدة لإيقافها، خصوصا بعد ما تناهت الأخبار إلى أسماعهم بإسلام أهل يثرب، وتوثيق الرابطة بهم ببيعة العقبة الأولى والثانية. فقد كانوا يحاولون إيقاف نور الإسلام، ونسوا أن الله تعالى وعد بإتمامه، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[10]
في هذا السياق، اعتمد قريش أساليب متعددة لمواجهة انشار الدعوة الإسلامية في مكة؛ وذلك بالسخرية والتحقير والاستهزاء والتكذيب والتضحيك، وقد سجل الله سبحانه وتعالى هذه الصور القبيحة والمحاولات البئيسة في القرآن الكريم للعبرة، فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾[11]وقال جل من قائل: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾[12] وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾[13] كل هذه المحاولات والمضايقات _التي هي من شأن العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالدليل_ كانت تترك أثرها السيء في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالأحرى في نفوس أصحابه الكرام لولا التثبيت من الله تعالى والمساندة الإلهية البينة للعيان. قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾[14] وهذه الأساليب _للأسف_ ما زالت متبعة ضد المسلمين في عالم الناس اليوم الذي كثر فيه دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تأبى هذه المضايقات والاضطهادات المبنية على الدين؛ ولكن دعاتها والمؤمنين بها يمارسون هذه القبائح ضد كل مسلم ومسلمة ملتزم بشرع الله تعالى ومتمسك بأحكامه الطاهرة. وهذا يذكرنا بموقف قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يجمعون على أمانته وصدقه وتعقله، ويتهمونه بالكذب الجنون إذا تعلق الأمر بدعوته، فما أشبه الموقفين!
- 2. ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حزن بوفاة عمه وزوجه
إن من أسباب الهجرة النبوية الشريفةما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غم وهم وحزن غداة وفاة عمه أبي طالب الذي كان ينافح عنه بكل ما أوتي من قوة، فهو لم يأل جهدا في مناصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه من قريش؛ إذ هو الذي قال لرسول الله: ” اذهب ياابن أخي، فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك أبدا”[15]وفي العام نفسه، توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه وتناصره بما حباها الله به من مكانة اجتماعية وحكمة سنية ورشد في الرأي. فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه، فقد كانوا تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد هتين الواقعتين.[16] فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب.”[17]
- نجاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبير أزمة الدعوة
إن من الأسباب الإيجابية التي دعت إلى الهجرة الشريفة نجاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبير الأزمة بنقل المعركة خارج مكة بحثا عمن يناصره ويسانده ويؤمن برسالته العالمية، النور الخالد، ويصدقه في دعوته، فكان أن عرض الإسلام على القبائل والأفراد خارج مكة.[18] وهكذا دعا فيمن دعا إلى الله تعالى أهل يثرب الذين سارعوا إلى الاستجابة؛ غير أن رسول الله من حكمته وحكنته أن وثق هذا الرباط الشرعي الديني برابطة بيعة العقبة الأولى[19] والثانية[20]ضمانا للالتزام بنصرته وتوفير الدعم له مهما كان الوضع؛ ولذلك فبايعوه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا في لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.[21]وهكذا وطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء مجتمع جديد من أخص أوصافه التآزر والتضامن، والقوة، والثبات على الحق.
ثالثا: الدروس والعبر من هجرة خير البشر
إن المتأمل الناظر في أحداث الهجرة النبوية الشريفة ليستخلص جملة من الدرس والعبر التي تعتبر مرجعا لاعتبار الناس بها اليوم في حياتهم، ويتخذونها قدوة متبعة والتي منها:
أن الهجرة النبوية تشكل المحطة الأساس في تاريخ الأمة الإسلامية، فهي ترمز إلى انتقال الأمة الإسلامية من مرحلة الاضطهاد والضعف إلى مرحلة المنعة والقوة، ومن مرحلة الخوف إلى مرحلة الأمن. ولهذا، فالهجرة تبقى مفتوحة لقراءتها والاستفادة مما اشتملت عليه أحداثها من دروس ترتبط بقضايا الناس اليوم والغد.
ومنها أن المجتمع الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة قام على التقوى، والتآزر والتناصر، وتذويب العصبيات ونعرات الجاهلية. ولذلك نجح نجاحا باهرا وأصبح مجتمعا رائدا، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[22]للناس ولقد حقق هذا المجتمع الفتي ما حققه من نجاح لتأسيسه على أركان ثلاثة ذات أهمية في حياة الإنسان، وهي: بناء المسجد الذي يعتبر موضعا لأداء الصلوات، ومؤسسة يتعلم فيها المسلمون تعاليم الدين وتوجيهاته، وكذا مكانا لإبرام وإدارة جميع شؤون المسلمين المختلفة. والأساس الثاني هو المؤاخاة بين المسلمين التي تذوب بها عصبات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه، والأساس الثالث هي ميثاق التحالف الإسلامي الذي أزاح به كل ما كان من حزازات الجاهلية، والنزعات القبلية ولم تترك مجالا لتقاليد الجاهلية.
ومنها الإعداد والتحطيط الجيدين لتجاوز المحن والأزمات، فرسول الله صلى الله وسلم ما أقدم على مغادرة مكة (وطنه الحبيب) رفقة صحبه الكرام إلا بعد أن اتخذ التدبير الكفيلة بنجاح الهجرة، فقد عرض الإسلام على القبائل خاج مكة واستجيب له في ذلك، وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية، كما أنه أعد أصحابه من الناحية النفسية بالإذن لهم في الهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة، طبعا كل هذاالتخطيط كان بتوجيه الله تعالى وتوفيقه.
ومنها الأخذ بالأسبابفي التعاطي مع الظروف والأحداث والأزمات وغيرها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته هذه احترم هذا الميدأ بالرغم من أنه مؤيد بالمعجزات الباهرات والآيات البينات الدالة على صدقه وحفظ الله تعالى من كل أذى. في هذا الإطار، رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار رفيق هجرته أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وكلف ابنه عبد الله أن يأتيه كل يوم بأخبار قريش، وكلف أسماء رضي الله عنها بحمل الزاد والمؤن لهما، واستأجر عبد الله بن أريقط دليلا لهما على الطريق، وواعداه غار ثور بعد ثلاث وسلماه راحلتيهما.فليكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا في اتخاذ الأسباب في التعامل مع الأزمات كأزمة كورونا المستجد التي ما زال الناس يتهورون في التعاطي معها ولا يحترمون الإجراءات الاحترازية المنصوح بها في العالم كله، ولذلك فالمتهور إما أن يقتل نفسه أو يتسبب في قتل غيره والشواهد على ذلك كثيرة في الواقع.
ومنها الوقوف على دور المرأة وبصمتها في هذا التحول الكبير الذي عرفه المجتمع في هذا الحدث العظيم. لقد تجلى دور المرأة فيما قامت به أسماء وعائشة رضي الله عنهما من مساندة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووالدهما أبي بكر رضي الله عنه. فقد حافظتا على سر الوجهة التي يقصد إليه والدهما صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من التهديد الذي لحق أسماء من أبي جهل ونفر من قريش. فقد ضربت بهذه المشاركة والمواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا هن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به والنسج على منواله.
ومنها أن الصحابة بإشارة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذوا الهجرة مبدأ التوقيم الهجري مع ما يرمز إليه من بناء هوة الدولة الإسلامية التي نشأت في بلاد العرب. ومعلوم أن عمر رضي الله عنه علل اقتراحه بجعل الهجرة مبدأ التقويم الهجري بأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل. غير أن هذا التقويم _للأسف_ لا يلتفت إليه كثير من السلمين لارتباط كثير من مصالحهم وشؤونهم الدنوية بالتقويم الميلادي؛ لذلك تجد كثيرا منهم يجهلونه. والإشارة هنا جديرة إلى أن القرآن الكريم وثق حقيقة مهمة حول التقويم الهجري؛ وذلك أنه بين أن هذه الشهور بدأ التاريح بها منذ أن خلق الله سبحانه السموات والارض، مبينا عدتها والحرم منها فهو توقيفي، قال تعالى:﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾[23] ولأهمية التقويم، ربط به سبحانه جملة من أركان الدين كالحج والصيام والزكاة، وجملة كبيرة من أحكام هذا الدين، كالكفارات والعدد وغيرها، ولعل السر في ذلك يرجعإلى ربط المسلمين بما يعتبر من هوتهم المبنية على دينهم الحنيف.
مما ينبغي أن يعتبر به في أحداث الهجرة أن التآمر ضد شريعة الله تعالى ومن يدعو إليها سيبقى ما بقي الإنسان على الأرض؛ لأنه إذا كانت هناك محاولات منع انشار الدعوة وانتفاع الناس بما فيها من خير ونفع في حياة صاحب الشرع ونصب مختلف العراقيل والعقبات في طريقه، فمن الأقيس أن يحصل هذا ضد الدعاة إلى الله تعالى لكون المخالفين لهم يعبترونهم طفيليين ومتدخلين في حياة الناس بدون وجه حق؛ ولذلك تجب مضايقتهم والتهوين من شأنهم بمختلف الطرق والأساليب وعبر جميع الوسائل المتاحة والممكنة، وما أكثرها!
ثم إن من أعظم الدروس الواجب الالتفات إليها أن الهجرة في زماننا هذا نحققها من خلال هجرة الذنوب والإقلاع عن المعاصي والمنكرات، والابتعاد عن جميع السلوكيات المؤذية للإنسان، وللبيئة، وغيرهما، قال عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها: “لا هجرة بعد الفتح؛ ولكنه جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا”[24]وقال عليه الصلاة والسلام: “المهاجر من هاجر ما نهى الله عنه، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم.”[25]لقد آن الأوان أن نعتبر بتوديع عام هجري واستقبال عام آخر جديد؛ وذلك بملاحظة أن هذا عام قد انقضى من حياتنا وأجلنا، وأننا نسير نحو خط النهاية، قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾فهذا درس يحيل المؤمن على فتح محاسبة النفس وزنتها بميزان الشرع والحق، فعلينا بمحاسبة النفس قبل أن نحاسب، ونزن أنفسنا قبل أن نوزن.[26]
هذا بيان وتوجيه وتذكير لنفسي وللناس بخصوص هذه الحدث العظيم الذي يستوجب من المسلمين قاطبة الوقوف معه والوقف عنده وإعادة قراءته يطرق مختلفة ومناهج متعددة قصد ااستحضار أطوار الأحداث واستخلاص الدروس والعبر من أجل الاقتداء بها والنسج على منوالها والاتعاظ بها واستنباط الحلول منها لقضايانا المعاصرة، وما أكثرها!
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] . الحشر: 8_9.
[2]. سورة الأنفال: 30.
[3] . علي بن أحمد الواحدي أبو الحسن (ت 468 ه). الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تح: صفوان عدنان داوودي، دار القلم – الدار الشامية، ط 1، ج 1/437-438.
[4] . ابن العربي. الجامع لأحكام القرآن لابن العربي، 2/396.
[5] . يس: 8_9.
[6] . أبو الحسن الماوردي. أعلام النبوة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة 1، 1406هـ/1986 م، ص: 75.
[7] . الأنفال: 30.
[8] . المائدة: 67.
[9] . أبو الحسن الماوردي. أعلام النبوة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة 1، 1406هـ/1986م، ص: 71.
[10] . التوبة: 32.
[11] . الحجر: 6.
[12] . ص: 4.
[13] . المطففين: 29_33.
[14] . الأنعام: 33.
[15] . سيرة ابن هشام، 1/ 266.
[16] . المباركفوري. الرحيق المختوم، مكتبة المورد، القاهر، الطبعة 1، 1427 هـ/ 2006 م، ص: 86.
[17] . سيرة ابن هشام، 1/ 416.
[18] . الرحيق المختوم للمباركفوري، م. س، ص: 97.
[19] . ابن هشام. سيرة ابن هشام، 1/ 431_433.
[20] . ابن هشام. سيرة ابن هشام، 1/ 440_441.
[21] . رواه الإمام أحمد في مسنده بإستاد حسن، وصححه الحاكم وابن حبان. انظر سيرة ابن هشام، 1/454.
[22] . آل عمران: 110.
[23] . التوبة: 36.
[24] . متفق عيه، أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ؛ باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح.
[25] . أخرجه النسائي في “السنن الكبرى” (11794) ، والبيهقي في “الشعب” (10611) عن فَضَالَة بْن عُبَيْدٍ.
[26] . هذا أثر بالمعنى روي عن عمر رضي الله عنه، أخرجه أبو نعيم في الحلية، 1/52.