الهلالي يكتب: إصلاح نظام معاش البرلمانيين.. محاولة في مقاربة سياسية غير تقنية
هوية بريس – امحمد الهلالي
أتابع النقاش الجدي حول معاش البرلمانيين ولا يسعني إلا أن أحترم جميع وجهات النظر خاصة التي تتسم حججها بقدر معتبر من الوجاهة وهي تقدم مرافعات قيمة غايتها الإصلاح أو التصفية والإلغاء بدافع الخرص على المال العام وتخليق الشأن العام.
غير أن مساهمتي في النقاش الدائر في الموضوع إنما تبتغي التحرر من حالة من الترهيب الفكري الذي أصبح يخنق أي رأي مخالف له مقاربة أخرى أو يصدر عن تفكير من خارج الصندوق.
في مقومات خطاب الالغاء:
يقوم خطاب إلغاء وتصفية نظام معاش البرلمانيين على العناصر والمقومات التالية:
– ضرورة تخليق الشأن العام وودفع القائمين على تدبيره إلى التخلي عن امتيازات غير مشروعة أو بقايا ريع غير مستحقة وغير مبررة وهم يمارسون مهمة نضالية بالأساس.
– كون المهمة الانتدابية والتمثيلية تتنافى مع منطق المعاش والتقاعد الذي يعتبر من لوازم العمل الوظيفي أو العمل والشغل أو العمل المهني أو التشغيل الذاتي؛
– كون المعاش وما يرتبط به من مزايا وامتيازات ينتمي إلى منطق تضارب المصالح ويشكل أحد تمظهرات الإثراء بلا سبب؛
– كون البرلمان وهو يفتح هذا الورش إنما ينزاح عن التشريع لأهداف المصلحة العامة إلى التشريع من أجل المصلحة الخاصة للبرلمانيين.
في حدود خطاب الالغاء والتصفية:
إن الحجج التي يقدمها هذا الخطاب تبدو في المنطق الداخلي على قدر مهم من الوجاهة والتماسك وذات جاذبية خاصة في الإقناع واستمالة جمهور الناس لمن عندما يتعلق الأمر بمنطق تقني جزئي وليس بمنطق سياسي كلي.
ومن هنا فهاته الحجج يصعب أن تصمد عندما يتم استدعاء منظور سياسي وتحليل قانوني ومعرفي.
فمن جهة تبدو تلكم الحجج مندرجة ضمن خطاب شعبوي مزايداتي يقرن السياسة بالغنيمة ويربط العمل السياسي بالتكسب والانتفاع والأحزاب بالوزيعة ويتهم كل اعتدال بالانبطاح أو الجبن، وكل حكمة بالخوف، وكل ذلك ضمن الشعار الشعبوي الذي يقول: “عليك الأمان عليك الأمان لا حكومة لا برلمان”.
قد يكون هذا الخطاب متفهم لدى من ينظر إلى الموقع والدور الذي تحتله المؤسستين التشريعية والحكومية المتمخضة عنها في الهيكلة الدستورية والمؤسساتية للبلاد.
وعندما يوضع هذا الخطاب في سياق الاحتجاج والضغط لتعزيز مكانة السلطتين التشريعية والتنفيذية إزاء تغول الهيئات المؤسسات الاستشارية والتقنية والادارية نجد أقدار كبيرو من تهمش الإرادة الشعبية رغم أن ذلك يسقط في ممارسات التبخيس الممنهج لهذه الإرادة الشعبية والمؤسسات التي يفترض أن تكون المعبر عن إرادتها، بدون شك فإن هذا الخطاب ينم عن تناقض بين التشخيص الذي يقر بوجود ضعف في موقع السلطتين التشريعية والتنفيذية المنبثقتين عن صناديق الاقتراع لفائدة مراكز نفوذ وشبكة مؤسسات ولجان وهيئات استشارية تقضم من القرار العمومي وتحد من نجاعة السياسات العمومية الخاضعة لربط المسؤولية بالمحاسبة وبين المسلكيات التي لا تدخر في ذات الوقت جهدا في المزيد من أضغاف هاته المؤسسات وموقعها وأدوارها والإمكانات التي يفترض أن تكون رهن إشارة ممثلي الشعب فيها.
بين منطقين:
ما هو المنطق الأسلم إذا سلمنا بحالة الضعف في الموقع والأداء لهاته المؤسسة هل هو الانخراط في حملات المزيد من أضعافها وتشويه صورتها أمام الرأي العام والسقوط في صناعة العزوف السياسي وقتل السياسة أم أن الحل هو العمل على تقوية تموقها وتعزيز الامكانات الموضوعة رهن إشارتها ثم محاسبتها على أدوارها التشريعية والرقابية على السياسات العمومية وعلى مصير المال العام وواقع الريع وحالة التنافسية وتضارب المصالح الحقيقية وواقع وجهد التخليق.
قد يكون الاتجاه غير المقتنع بالنضال الديموقراطي المؤسساتي منسجما مع طرحه الذي يؤلب الشارع ضد مؤسسات يراها غير ذات مصداقية لكونها من وجهة نظرهم ناتجة عن دستور ممنوح، أو لكون التيارات الممثلة فيها تمثل حسب نفس الرأي خط المهادنة ووخيار المحافظة.
لكن كيف يمكن لأصحاب النضال الديموقراطي أن يبرروا المفارقة التي تقر بضعف المؤسسات ونقص مصداقيتها أمام تغول اللوبيات والمصالح وشبكات اللجان ثم يعمدون إلى المزيد من الأضعاف وانتقاص هاته الإمكانات.
بل كيف يجتمع في الموقف الواحد الصلابة اتجاه الاستبداد النازل من فوق، لكن ترفع الرايات البيض أمام الاستبداد الصاعد، وخاصة عندما يتم ذلك من موقع قيادي يفترض فيه أن يقوم بدور بارز في تأطير المواطنين وبيان ما يصح وما لا يصح وما ينفع وما يضر لكنه يستقيل عن ممارسة هذا الدور ويجاري رغبة الجمهور.
كيف لمن يخاف على سمعته او صورته أمام الشعبوية أن يقوى أمام اللوبيات والمصالح والنفوذ في قضايا أكبر من قبيل التوزيع العادل للثروة ومحاربة الربع والتملص الضريبي وغيرها.
في حقيقة الريع الانتخابي:
من المقولات الأكثر إغراء هي إدراج المعاش والتعويضات في خانة الريع الانتخابي الذي لا تبرره المهمة الانتدابية التي تظل في جوهرها مجرد مهمة نضالية تطوعية وليست وظيفة أو شغل يستحق أجرة أو تعويضا ومن ثم لا يستحق أي تغطية واجتماعية أو صحية.
هذا المنطق إذا أردنا التسليم به، علينا ان نضعه في تصور ومنظور شمولي يرمي الى تصنيف حالات الامتيازات المشروعة وغير المشروعة المعقولة وغير المعقولة ثم يتم قياس ذلك مع ما يتقاضاه المنتخب ممثل الشعب في نقابل ما يتقاضاه التقني والاظاري والخبير، فنجري عليه ما يجري على الجميع بمن فيهم كبار هؤلاء الموظفين.
اما اذا لم نرى في اجور كبار المسؤولين وكبار الموظفين والتقنوقراط والخبراء ومدبري بعض المرافق العمومبة والخاصة ومسيري بعض الهيئات الرياضة وغيرها اي امتياز يستحق الخصم والترشيد ونيتم اختزال الريع والامنتيازات غير المستحقة في ما يتقاضاه المنتخب فذلك لعمري سقوط في فخ التبخيس الممنهج للسياسة وممثلي الارادة الشعبية او ارتماء في احضان الخطاب العدمي او الخطاب الشعبوي او المزايدة لا غير.
لذلك عندما نتمكن من وضع خريطة الريع ولائحة الامتيازات غير المشروعة او حتى غير المعقولة ويصل الدور على المنتخب فعندئذ سيصفق الجميع لهاته المقاربة ولهذا النصال في المناضلين وفي المؤسسات التمثيلية.
قد يقول قائل عن حق ان المنتخب ينبغي ان يعطي القدوة ويبدأ بنفسه، وهذا له وجاهته لكن في ما نعيشه من سياق لا يمكن ان نعول كثيرا على مؤسسات ضعيفة وممثلين بلا امكانات ان يضطلعوا بمهام جسيمة من قبيل اعادة التوازن الى المؤسسات ومواجهة الفساد والريع.
بدون شك فان الحكامة الحقيقية هي في المهنية والاحتراف والنجاعة وطمن نطاق نظرة سياسية كلية وليس في الهواية والتطوع.
وكما ان المهنية لها كلفة فان الاسلم هو ان تكون ابرز مؤسسة في المعمار والهندسة النؤسساتية للبلاد والتي تشرع لكل المؤسسات ان تكون في وضع متقدم من خيث الاممانات التي توصع رهن اشارتها وان تظل في اعلى درحة المهنية والاحتراف وان تستقطب اجود الاطر والخبرات والكفاءات في جميع الميادين ومن جميع المشارب.
واذا اتفقنا على هذا الاختيار وحتى على فرض ان الجميع على قدر كبير من التضحية والتطوع فانه لا يمكن للمناضل ان يجمع بين ابعاد لاحصر لها من لدهذا التطوع اي بالوقت والخبرة ووان نكالب منه التهلي عن جزء من مستواه المادي ودخل اسرته لكي يمارس هاته المهمة الانتدابية والتطوعية.
وفي غياب هذا المنطق سوف نجد انفسنا امام منطق الدفع فقط بكفاءات اقل ومن فئات اجتماعية ومهنية معينة الى ولوج هاته المؤسسات فنقع في هاته الحالة في وضعية مؤسسات تحت هيمتة اللوبيات وتحت توجيه التيقنوقراط والبيروقراطية ونقع في المخصلة في حالة من الضعف الحقيقي النفضي الى تبديد المال العام الحقيقي والتطفيف في توزيع الثروات والضعف في الرقابة على القرار العمومي.
على سبيل الختم
وفي الختام علينا ان نختار هل نريد مؤسسة تشريعية في موقع صدارة من باقي المؤسسات ام نريدها في موقع ذيلي وضغيف وتابع ومتحكم فيه.
في بعض التجارب المقارن. عندما يتم اختيار سمو بعض الهيئات والسلطات عن غيرها يتم اغناء من يدبر شؤونها عن الحاجة وعن امكانية الضعف امام اي سهوة أو شبهة، فمثلا يتم منح بعض القضاة بطاقة بنكية بحساب غير محدود مع رقابة على الصرف وذاك حتى لا يضعف امام محاولات الارتشاء بالمال.
وفي سائر البلدان يتلقى العاملون في ادارة المالية تعويضات تفوق نظرائهم في الادارات الاخرى لعدم تركهم عرضة للضعف امام امكانية اختلاس المال العام او التواطؤ ضد تحصيل المال العام.
وفي الخلاصة هل نريد برلمانيا يفترض ان يحاسب رئيس ادارة جماعية لمقاولة عمومية او مدير نؤسسة عمومية عن صرف المال العام وهو مشدوها امامه وامام الامكنات الموضوعة رهن اشارته.
هل البطولة هي اظهار انني ضد هاته الامتيازات حتى لا يقال أنني اتشبت بالكرسي او بعرض الدنيا. ام ان البطولة الحقيقية هي في جودة الاداؤدء وفي فاعلية الدور و الاسهام في التشريع ضد الريع الحقيقي وفي مواجهة الفساد الكبير اولا ثم الصغير ايضا سواء في الصفقات الكبرى وفي الاذونات والرخص غير المستحقة.
ثم أليس البطولة أيضا هي أن يكون التصرف بمنطق الإصلاح والأصلح والأنفع في ما يتم تخصيله من منافع مشروعة وتعويضات قانونية وامتيازات شفافة بتصرف من لا يخشى الفقر وأن يتم الإنفاق منها في الخير وعدم اكتنازها أو تبذيرها في وجهوه البذخ والتنعم دون أن يتم مقاسمتها مع فقير أو ذي حاجة أو في منفعة عمومية أو صدقة جارية.
أي إصلاح لمعاش البرلماني من أجل مقاربة بالخيار الثالث:
لا بد من الاقرار اولا ان وضعية هاته المعاشات في حالتها الموروثة تخترقها جوانب ريعية كيرة بدليل أنها وصلت الى الافلاس.
ومن مظاهر هذا الريع ما يلي:
– صرفها فور انتهاء المهمة ودونما اعتبار لسن الاستحقاق؛
– قيمة هذا المعاش الذي لا يتوازى مع زمن المهمة وإسهام البرلماني فيها؛
– ثم حالة الجمع مع امتيازات مماثلة.
وبناء على هذا التوصيف يمكن بلورة خطاب إصلاح معاشات البرلمانيبن على ثلاث مقومات أو دعامات وذلك كما يلي:
1- الدعامة الأولى هي مراجعة وقت استحقاقها بمساواتها مع باقي أنظمة المعاش وهو السن القانوني المعتمد لأنظمة التقاعد في أفق 65 سنة.
2- الدعامة الثانية: هو مراجعة أقساطها بتحمل إضافي للمستفيدين منها وليس من الدعم العمومي؛
3- الدعامة الثالثة هي إقرار حالة من التنافي مع أي امتياز أو أجر أو تعويض موازي لها.
والله أعلم.