الوادي والروافد: الهوية المغربية بين التعدد والتكامل

الوادي والروافد: الهوية المغربية بين التعدد والتكامل
هوية بريس – عبد السلام بامعروف
تستمر النقاشات حول الهوية المغربية في إثراء الفكر الثقافي والاجتماعي، حيث يُنظر إلى العلاقة بين مكوناتها الثقافية واللغوية على أنها محور أساسي لفهم هذه الهوية. في هذا السياق، يطرح بعض المنتمين للنزعة الأمازيغية تصنيف الهوية العربية الإسلامية على أنها “رافد”، معتبرين أن الأمازيغية هي “الأصل” الذي يجب أن يظل المركز، بينما تُعتبر المكونات الأخرى كإضافات تكميلية. لكن هذا التصور، رغم انتشاره في بعض الأوساط، يفتقر إلى فهم عميق للتاريخ المغربي المعقد والعلاقة التفاعلية بين هذه المكونات.
إلا أنه حتى إذا اعتمدنا هذا التصور، فلا بد أن نعترف بأن “الرافد” ليس مجرد إضافة هامشية، بل هو جزء أساسي من النهر الذي لا يمكن له أن يستمر في التدفق دون هذه الروافد التي تمنحه أسباب الحياة. إذن، الهوية المغربية، حتى إذا كانت تشتمل على العديد من الروافد، لا يمكن لها أن تُحيي أو تظل متجددة دون التفاعل بين هذه المكونات التي تشكل جميعها نهرًا واحدًا متدفقًا.
الهوية المغربية: من الوادي إلى الروافد
عندما ننظر إلى الهوية المغربية من خلال المجاز، يمكننا تصورها كوادٍ واسع، تمتد ضفافه عبر تاريخ طويل. الوادي في هذه الصورة هو الهوية الأمازيغية، التي تمثل الأساس الذي تشكل عليه الكثير من معالم الثقافة المغربية. ولكن الوادي لا يبقى على قيد الحياة إلا إذا كانت هناك روافد تتدفق فيه، تمنحه الاستمرارية والتجدد. هذه الروافد، وإن كانت متنوعة في منشئها، تساهم جميعها في إحياء هذا الوادي، وتجعل منه مجرى حيويًا لا يقتصر على مكون واحد، بل يتسع ليشمل كل التيارات التي ساهمت في تشكيله.
اللغة العربية، والثقافة الإسلامية، لم تقتصر على كونها إضافة هامشية إلى الثقافة الأمازيغية، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من عملية التفاعل الثقافي والاجتماعي التي أثرت في الحياة المغربية. في هذا السياق، حتى لو اعتبرنا أن الهوية العربية الإسلامية هي “رافد” كما يراه بعض المنتمين للنزعة الأمازيغية، فإن هذا الرافد ليس عنصرًا طارئًا أو غريبًا. بل هو أحد العناصر التي ساهمت في تشكيل الهوية المغربية في تفاعلها مع الأمازيغية، مما أسهم في خلق هوية وطنية جامعة.
الدستور المغربي: إقرار بالوحدة والتنوع
مما لا شك فيه أن الدستور المغربي، عند حديثه عن الهوية الوطنية، اختار مصطلح “المكون” للإشارة إلى المكون العربي الإسلامي، وليس مصطلح “الرافد”. وهذا الاختيار ليس عارضًا، بل هو تعبير دقيق عن واقع تاريخي وهوياتي. فالمكون العربي الإسلامي لم يكن يومًا مجرد إضافة أو دخيل، بل هو مكون أصيل شكل جزءًا أساسيًا من الهوية المغربية.
لقد كان هذا المصطلح، “المكون”، بمثابة اعتراف رسمي بضرورة فهم الهوية المغربية في سياقها التعددي والمركب. فالمكونات الثقافية المختلفة في المغرب، بما في ذلك الأمازيغية والعربية والإسلامية، لا تعيش في عزلة عن بعضها، بل هي عناصر تتداخل وتشترك في تشكيل هوية مغربية لا يمكن اختزالها في مكون واحد. والمصطلح “المكون” يعكس تمامًا هذه الحقيقة، ويعترف بأن الهوية المغربية ليست مجرد تجمع عشوائي للروافد، بل هي وحدة حية ومعقدة لا يمكن الفصل بين مكوناتها.
حتى لو اعتبرنا الهوية العربية الإسلامية رافدًا: ضرورة التفاعل بين المكونات
حتى لو قبلنا بتصور بعض المنتمين للنزعة الأمازيغية واعتبرنا أن الهوية العربية الإسلامية هي “رافد” بالنسبة للهوية الأمازيغية، فإن الحقيقة التاريخية تظل واضحة: لا يمكن للوادي أن يستمر في التدفق دون أن تتدفق فيه الروافد التي تمنحه الحياة. ففي غياب هذا التفاعل بين المكونات المختلفة، يصبح الوادي مجرد مجرى جاف لا يحمل الحياة ولا يسهم في خلق هوية متجددة.
الهوية المغربية، مثل الوادي الذي يغذيه العديد من الروافد، لا يمكن أن تبقى حية وقوية إلا من خلال استمرار هذا التفاعل بين مختلف مكوناتها الثقافية واللغوية. فإذا كان البعض يعتبر أن الأمازيغية هي “الأصل”، فلا بد من الاعتراف بأن هذا الأصل لا يمكنه أن يظل متجددًا إلا إذا استمر في التفاعل مع العناصر الأخرى التي تساهم في إحيائه، مثل المكون العربي الإسلامي. فهذا التفاعل هو ما يمنح الهوية المغربية حيويتها وقوة استمرارها.
المغرب كمحيط: قبول التنوع واحترام التفاعل
في هذا السياق، يمكننا تصور المغرب كمحيط واسع، حيث تصب فيه كل هذه الروافد لتشكل هوية جامعة، غنية ومتجددة. المحيط، مثل الهوية المغربية، لا يستمد قوته من مصدر واحد، بل من تفاعل المياه القادمة من مختلف الأنهار. هذه الأنهار ليست مجرد إضافات، بل هي أساس في تغذية المحيط وإعطائه الخصائص التي يعرف بها.
إن المغرب اليوم هو محيط شاسع من التعدد الثقافي واللغوي، يشكل من خلاله كل مكون ثقافي عنصرًا حيويًا في تكوينه. ولا يمكن لأي مكون، سواء كان أمازيغيًا أو عربيًا، أن يدعي التفرد أو الانفصال عن الآخرين، لأن الجميع يتداخل ويشكل وحدة واحدة، كما تتداخل مياه الأنهار لتشكل محيطًا واحدًا.
خلاصة: الهوية المغربية وحدة حية من التنوع والتكامل
الهوية المغربية هي نهرٌ متدفق، ومحيطٌ جامع يتسع لجميع المكونات الثقافية واللغوية. حتى إذا اعتبرنا أن المكون العربي الإسلامي هو “رافد” من قبل البعض، فإن الحقيقة أن هذا الرافد جزء أساسي من الوادي الذي يمنحه الحياة. من خلال تفاعل الأمازيغية والعربية الإسلامية، إلى جانب تأثيرات أخرى، تشكل الهوية المغربية وحدة حية، متجددة، وعميقة.
المصطلح الدستوري “المكون” يعكس هذا الواقع التاريخي المعقد والواقعي، ويؤكد على ضرورة فهم الهوية المغربية في إطار تعددي، حيث لا يظل لأي مكون “تفرد” بل التفاعل هو ما يضمن استمرار هذه الهوية وثرائها. والهوية المغربية، في آخر المطاف، هي نهرٌ لا يمكنه العيش في عزلة، بل في تفاعل مستمر بين روافده المختلفة.



