الوظائف والولايات العامة.. أما آن الأوان لربط المسؤولية بالأمانة والعدالة؟!
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
أولى الإسلام للولايات العامة أو وظائف الشأن العام اهتماما كبيرا، وذلك لدورها المحوري والحيوي في الحفاظ على مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية، وكذلك في إبراز الأمة الإسلامية في مظهر يتسم بالجمال والجلال، ويتميز بحسن التدبير ما يجعل من ينتمي إليها يشعر بالأمن والأمان وقدرته على الظفر بأسس الحياة الكريمة.
ونظرا للأدوار العظمى للولايات العامة ووظائف الشأن العام في تأطير حياة الفرد والمجتمع وحراسة الدين والدنيا، فإن الشرع أطلق عليها اسما يشعر من تولى مسؤوليتها بعظم مكانتها وخطورة أمرها فسماها “الأمانة”، ففي صحيح مسلم أن الصحابي أبا ذر الغفاري رضي الله عنه طلب ولاية عامة أو منصبا من مناصب الشأن العام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْىٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا». بل نجد في حديث صحيح آخر أن الشرع نفى الإيمان الكامل المطلوب عمن فرط في الأمانة ولم يحفظها وخانها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ».
وللولايات العامة أو وظائف الشأن العام في وقتنا المعاصر صور كثيرة، تبدأ من رئاسة الدولة كمنصب الملك أو الأمير أو رئيس الدولة، ومنصب رئاسة الحكومة، وكذلك يدخل في هذه الولايات الوزراء على اختلاف مسؤولياتهم، والبرلمانيون ورؤساء الأحزاب والمسؤولون على تسيير المجال الحضري والقروي…، وهذا لون من الولايات العامة أصحابها هم من طلبوا المسؤولية وتقلد الأمانة، والأصل فيهم ألا يمكن لهم منها ولا يعطوا هذه الأمانات، ولا يستثنى من هذا الأصل إلا من دلت القرائن القوية اليقينية على صدقهم وعدم استغلالهم للولاية العامة في مصالحهم الخاصة وانتفاء الشبهة عنهم، ففي الحديث النبوي الصحيح: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ»، فهم سألوا وحرصوا، فمظنة السوء بهم أكبر، ومراقبتهم في أداء الأمانة ومحاسبتهم عليها يجب أن تكون أشد وأثقل.
ولون آخر من الولايات العامة ووظائف الشأن العام تقلدها أصحابها بتعيين من سلطة أعلى، فهم إن لم يطلبوها ولم يحرصوا عليها، يجب عليهم الإخلاص والتفاني في أداء تلك الأمانة حتى لا تعود عليهم يوم القيامة خزي وندامة. وعلى السلطة العليا التي أوكلت لهؤلاء تلك الأمانة أن تتأكد من استحقاقهم لها، فإن من أكبر أسباب الإخلال بها أن يتقلد من ليس كفئا لها، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “«إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ». قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»”. وللأسف الشديد ما أكثر من أسندت إليهم الأمانة وهم ليسوا أهلا لها بتاتا بالمعيار الشرعي، والله المستعان.
هذا، وأهل الولايات العامة ووظائف الشأن العام هم من توفرت فيه صفتان؛ صفة القوة وصفة الأمانة، كما دلت عليهما نصوص من القرآن الكريم: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]. وقال صاحب مصرَ ليوسف عليه السلام: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]، فالقوة متعلِّقة بالكفاءة والمهارة سواء كانتا علمية أو عملية، والأمانة متعلِّقة بالصدق في التدين والنزاهة، ولكل ولاية من ولايات العامة أو وظائف الشأن العام ما يناسبها من القوة والأمانة، فرب مسؤول على قطاع عام كالتربية والتعليم مثلا يفرض على الناس التعلم بغير لغتهم الأم كما هو الشأن في بلدنا المغرب مع اللغة الفرنسية، وقد اتفق عقلاء البشرية وحكماؤها أنه لا سبيل بالنهوض بالتعليم إلا عبر لغة الأم وهي اللغة العربية بالنسبة لنا، لكن ذلك المسؤول يتخلى عن واجبه ويقفز على هذه الحقيقة إما استجابة للضغوط الخارجية أو محاباة لهم، والأمر نفسه في قطاع العدل، وفي قطاع الفلاحة، وقطاع الإعلام…. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.
والأدهى والأمر من هذا كله، حينما تطفو على السطح قرائن بما لا يدع مجالا للشك أن الأمانة قد خرمت، وأن دين المغاربة في خطر، أو دنياهم في ضياع، وأن من أوكلت إليهم الوظيفة من وظائف الشأن العام قد أفسدوا فيها أو اغتنوا منها… ورغم ذلك لا يتم القيام بما يجب القيام به من طرف السلطة العليا في محاسبة المفرطين في الأمانة، وفي هذه الحالة يكون الجميع شركاء، وصدق رسول الله عليه الصلاة والسلام إذ قال: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».