انتقدونا لكن دافعوا عنا

انتقدونا لكن دافعوا عنا
هوية بريس – محمد كرم
من بين التصريحات التي بلغت مسامعي و ظلت عالقة بذاكرتي رغم انقضاء فترة طويلة على رصدها تصريحان إثنان تم الإدلاء بهما في نفس الفترة و على خلفية حدثين متشابهين. جاء أحدهما على لسان مواطنة فرنسية و على قناة تلفزيونية فرنسية، في حين نطق بالآخر أمام كاميرا تلفزيون عين السبع مغربي لا تختلف ملامح وجهه عن ملامح وجهي و وجوهكم. الأولى تنتمي إلى مدينة جنوبية صغيرة غمرتها مياه الأمطار بشكل شبه كلي، أما الثاني فينتسب إلى مدينة شمالية كانت تعاني هي الأخرى من تجليات عاصفة رعدية تسببت في خسائر محدودة على العموم. و في الوقت الذي اعتبرت فيه الأولى أن ما كان حاصلا لا يد لآدمي فيه و أن الحل الوحيد في تلك الفترة العصيبة هو التسلح بالصبر و الانحناء أمام العاصفة و ترقب التدخلات و المساعدات الممكنة في انتظار تحسن الأوضاع و تجفف المياه و استعادة السماء لصفائها انفجر الثاني غضبا و لم يجد حرجا في مخاطبة مراسل القناة ـ و من خلاله عموم المشاهدين ـ قائلا : “أين هم ممثلو السلطة ؟ و أين اختفى أولئك الذين منحناهم أصواتنا فامتطوا ظهورنا و خذلونا في نهاية المطاف ؟” (!!!)
من الواضح أننا نحن هنا أمام عقليتين مختلفتين و نظرتين متباعدتين لنفس المأساة. فهناك من جهة الإيمان بالقضاء و القدر و التروي في تقييم الأمور قبل المرور إلى مرحلة رفع الصوت للتشكي و التنديد ـ إذا كان لابد من ذلك ـ ثم هناك في المقابل الميل الثابت و الأبدي لتعليق الكوارث على مشجب المسؤولين على اختلاف رتبهم و أنواعهم و تخصصاتهم و بأشد العبارات الممكنة.
و مرت الأيام و الأعوام، و ابتلي أهل إقليم الحوز بزلزال عنيف و مفجع و اشتعلت حرائق كبيرة في أكثر من غابة و سقطت عمارات هنا و هناك و دمرت عواصف أكثر من موقع … إلى أن جاء دور آسفي هي الأخرى لتجد نفسها قبل أيام تتنفس تحت الماء بفعل فيضان رهيب و غير مسبوق أتى على الأخضر و اليابس و حصد مجموعة لا يستهان بها من الأرواح البشرية ـ و ربما حتى الحيوانية ـ في غفلة من أهل المدينة حتى ظن البعض أن الصور المتداولة على أكثر من موقع أتت من الفيليبين أو بنغلاديش إلى أن ظهر ضريح سيدي بو الذهب فتأكد للجميع مصدر الخبر بشكل نهائي .
و الملاحظ أنه مع كل كارثة كبرى ـ و خاصة تلك التي تحمل توقيع الطبيعة ـ خطاب الضحايا و المعلقين عندنا لا يتغير، إذ هناك دائما حديث عن سوء التدبير و هشاشة البرامج التنموية و غياب العدالة المجالية و السطو على الميزانيات العمومية، بل هناك من يذهب إلى حد ربط المآسي بالتهميش و الإهمال المتعمدين و باحتقار المواطن مع المطالبة بمحاسبة كل من له يد في الفواجع الحاصلة و الزج به في السجن و إذاقته العذاب الأليم بسبب تقصيره في أداء الواجب و استهتاره بأرواح الناس و ممتلكاتهم.
و حتى نظل في سياق فاجعة حاضرة المحيط فقد كان من الطبيعي بحكم هول الحدث أن تظهر علامات التذمر على وجوه الناس و خاصة المنكوبين منهم، لكن ما هو العمل الذي كان يتوجب القيام به في حالة كهاته إلا أنه لم ينجز ؟ هل من الحكمة في شيء توقع قيام المنتخبين الجماعيين بنشر غطاء سميك و مانع لتسرب المياه على مجموع المدينة حتى لا يطالها البلل ؟ هل كان من الواجب على باشا المدينة و القياد و خلفائهم أن يبادروا شخصيا إلى اقتحام المياه و يتحولوا إلى غواصين في محاولة لتحويل مجراها أو شفطها حتى يعطوا الانطباع للساكنة بأنهم في مستوى المسؤولية ؟ و حتى بعد تسجيل القطرات القوية الأولى هل أخطأ عامل الإقليم و والي الجهة عندما تخلفا عن إصدار أوامرهما للسماء حتى تكف عن إغراق المدينة ؟ و لماذا لم يكن لممثلي عاصمة عبدة حضور بعين المكان ساعة غرقها ؟ ألم يكن بإمكانهم الطيران إلى وادي الشعبة على وجه السرعة للانضمام إلى جهود الإغاثة و لو بشرب جزء من المياه المتدفقة المندفعة على أمل التقليص من حجمها ؟ هل كل المدن المغربية مجهزة بجهاز الإنذار المبكر إلا آسفي ؟ و هل فتح تحقيق قضائي في عز الأزمة من شأن نتائجه حلحلة الوضع المأساوي القائم و إعادة الروح إلى من قضى و وضع حد نهائي لهذه الظاهرة الطبيعية ؟ و لماذا لم يوجه أحد أصبع الاتهام إلى ذوي الاختصاص بالمديرية الوطنية للأرصاد الجوية ؟ ألم يكن لهم من الإمكانات ما يسمح لهم بالتنبؤ بالفيضان و إصدار نشرة إنذارية من المستوى “الخزي” في الموضوع و في الوقت المناسب مع تعميمها بكل اللغات الممكنة و بكل الوسائل السمعية البصرية المتاحة و على أوسع نطاق ممكن ؟
بكل تأكيد لم يكن بإمكان كل هؤلاء فعل أي شيء غير إخبار السلطات المركزية بما كان يجري مادام أن الأمر هنا يتعلق بواحدة من تلك الكوارث الطبيعية التي تفوق ذكاء الإنسان و علمه و قدرته على التخطيط و على الوقاية و المواجهة الاستباقية و ذلك مهما كانت وسائله و أدواته و موارده. حتى الزلازل لا يمكن التنبؤ بها إلا قبل وقوعها بثوان معدودة.
و على العموم، من السهل جدا أن نكيل للمسؤولين مختلف أنواع الاتهامات لكن من النادر أن نقبل بوضع أنفسنا مكانهم لسبب بسيط هو أننا نرفض ذلك و نفضل الاستمرار في اعتبارهم الحائط القصير كلما حطت على رؤوسنا مأساة من المآسي الجماعية علما بأن هؤلاء لم يأتوا من كواكب أخرى بل هم منا و نحن منهم يرون ما نراه و يسمعون ما نسمعه و يفرحون مثلنا للنجاحات و ينكسرون مثلنا أمام الخيبات و عدد ساعات يومهم لا يتعدى 24 ساعة و عدد أيام أسبوعهم لا يتعدى 7 أيام، و هم حتما مسؤولون عن الاختلالات المرتبطة بالتدبير العادي بنسبة عالية لكنهم غير مسؤولين عن تقلبات مزاج الطبيعة و ما يمكن أن ينجم عنها من تبعات. لقد علمنا التلفزيون منذ نعومة أظافرنا بأن ثمة أمما متقدمة و متحضرة و غنية تقف عاجزة تماما هي الأخرى أمام تمرد الطبيعة و لا تملك غير انتظار الفرج من خالق هذا الكون و مدبره و لا تخجل من طلب المدد من الأمم الأخرى… و أنا على يقين بأن أذهان الناس مازالت تحتفظ بصور فياضانات شمال فرنسا و جنوب شرق آسيا و إعصار “ميليسا” بجامايكا و إعصار “شيدو” بأرخبيل مايوت و حرائق الغابات بالولايات المتحدة الأمريكية و إسبانيا و البرتغال و اليونان و زلازل تركيا و أفغانستان و غيرها من الكوارث الطبيعية المهولة التي تم رصدها خلال السنتين الماضيتين و التي كلفت حكومات البلدان المتضررة و شركات التأمين ملايير الدولارات.
إن استعدادنا الدائم لتحميل الدولة مسؤولية كل شيء من اجتياح الجراد لبعض حقولنا إلى اهتزاز مقياس ريشتر بمناطق بعينها مرورا بالفياضانات وارتفاع الأسعار و انقطاع التزويد بالماء الشروب من حين لآخر يسائل فعلا قدرتنا على التمييز و على فهم الإكراهات و تفهم الظروف و تحمل الصعاب الاستثنائية و مواجهتها … و سترحل حكومة و سيفرح الناس لحلول حكومة جديدة و لكن العقلية ستظل هي هي على ما يبدو، إذ سرعان ما تصبح الحكومة الجديدة في مرمى الانتقادات مع مطالبتها بالرحيل هي الأخرى لا لشيء سوى لكوننا نعشق الإمعان في نصف الكأس الفارغ و لا نقبل بأخطاء أولي الأمر منا مهما كانت صغيرة. و على أية حال، لا تعدو الانتقادات المعبر عنها في الظروف القاهرة في رأيي أن تكون مظهرا من مظاهر حرية التعبير التي يكفلها دستور البلاد لكنها تظل عاكسة لتخلف متواصل و معيق و مثير للشفقة.
فمتى سنتعافى من هذه العقلية و نقتنع بأن ثمة أشياء التدخل فيها ممكن و ثمة أشياء في المقابل تتجاوز قدراتنا و قدرات أصحاب الحل و العقد ؟ و متى سنتخلص مما يسمى في علم النفس ب “مفعول الثعبان” ؟ أي متى سننكب دون تأخير على العناية بالجرح أولا قبل الجري وراء “الثعبان” في محاولة للإمساك به و قتله ؟
مما لا شك فيه أن الكوارث الهائلة ـ و التي منها ما تسبب في انقراض حضارات بأكملها عبر تاريخ البشرية الطويل ـ لا تعالج إلا بوحدة جهود الدولة و المجتمع و ليس بالمواقف السلبية و التملص و التقاعس و تبادل الاتهامات المجانية و التعويل على تدخلات المؤسسات الرسمية فقط، و لو كانت الدولة بكل مكوناتها قادرة على الوفاء بكل التزاماتها دون مساعدة ما كانت لتسمح بتأسيس عشرات الآلاف من الجمعيات و تخصص للكثير منها منحا سنوية و ما كانت بعض الجهات لتكافئ هذه الجمعيات على تعاونها بتخصيص جوائز تقديرية للمتميزات منها. التضامن مطلوب اليوم بحدة و هو وحده الكفيل بمساعدة المدينة على التعافي و طي هذه الصفحة المبللة من تاريخها.
هكذا إذن هي الأمور، و من يعتقد بأن التصفيق بيد واحدة ممكن فليتفضل بإنجاز فيديو في الموضوع و تعميمه في أوساط المشككين حتى يتم إقصاء المثل ذي الصلة من قائمة الأمثلة المتداولة.
آمل أن تكون هذه الفاجعة فرصة ليس لمنع فواجع أخرى مماثلة لأن ثمة أقدارا لا يمكن ردها بل فقط لإصلاح ما يمكن إصلاحه و تحسين ما يمكن تحسينه و إنقاذ ما يمكن إنقاذه و تدارك ما يمكن تداركه و تقوية ما يمكن تقويته. آمل أيضا أن تتدخل السلطات التعميرية بيد من حديد بمجموع تراب المملكة لمنع البناء فوق أسرة الأودية الجافة لأن الوادي لا ينسى مكانه أبدا مهما طالت فترة القحط، و هذه حقيقة عرفها أجدادنا و آباؤنا لكن هناك اليوم من يصر على تجاهلها حتى في صفوف المهندسين.
اللهم إنا لا نسألك رد القضاء و إنما نسألك اللطف فيه خاصة في ظل ما نعرفه من تغيرات مناخية بعثرت الأوراق و وضعت العالم بأسره على كف عفريت… أما السؤال الجاهز “من المسؤول ؟” فقد يكون سؤالا وجيها و لكن طرحه غير ضروري في مثل هذه الظروف بل و تشتم فيه رائحة الشعبوية و خاصة عندما يتفوه به تجار الانتخابات.
… و تحية صادقة لأولئك الشباب الذين حلوا بشكل تلقائي محل رجال الوقاية المدنية بأن سارعوا إلى انتشال سيدة من قلب التيار قبل فوات الأوان و باعتماد ما توفر من وسائل على بساطتها. هكذا يكون التفاعل الشعبي الإيجابي مع الأحداث و ليس فقط بإطلاق العنان لمنبهات السيارات عقب كل إنجاز كروي عربي أو قاري أو عالمي.
ملحوظة ختامية : العنوان الذي تم انتقاؤه لهذا المقال ما هو سوى ترجمة فصيحة و حرفية للتعبير الدارج “دويو علينا و جيو علينا”.



