انحدار كرامة الإنسان في مهاوي أرذل الأزمان
هوية بريس – د. محمد ويلالي
قال -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
خلق الله -تعالى- الإنسان ليحظى بالتكريم والتقدير اللذين يستحقهما، باعتباره صاحب رسالة في هذه الحياة، زوده الله -تعالى- بالعقل والقلب، ليحيى في ظل عبادة الله، ويتلقى في سبيل ذلك ممن جعل الله لهم عليه يدا أو سلطة، ما طُوِّقوا به من حقوق وعناية، تجعله يعيش محاطا بسياج من الأمان، ومسربلا بِدِثار من الاطمئنان.
غير أن الإنسان في بلاد المسلمين بعامة، وفي بلدنا بخاصة، صار يستيقظ -هذه الأيام- على وقع فضائح وجرائم، تهتك أديم هذه الكرامة، وتمزق سياج هذه الطمأنينة، أشهرها جرائم الإرهاب، وجرائم الجنس، التي سايرت ارتفاعَ وتيرتها في الأصقاع الأخرى، بأرقام مذهلة، خرجت علينا بها الدراسات والإحصائيات.
فبحسب أرقام قام بجمعها باحثون في جامعة أمريكية، عرف العالم في السنة المنصرمة (2016) أكثر من 13400 عمل إرهابي، بحصيلة بلغت أكثر من 34 ألف قتيل، تخطى عدد القتلى في صفوف منفذي الاعتداءات 11600.
وفي هذه السنة نفسها، شهد 108 بلدان أعمالا إرهابية، منها ما شهد مقتل 382 شخصا مرة واحدة في حادث تفجير في مركز تجاري. مع تسجيل ارتفاع ملحوظ في استخدام السيارات وسيلةً لتنفيذ اعتداءات بدهس المارة، آخر فصولها ما جرى في إسبانيا، مما لطخ سمعتنا، وحط من قدرنا، وخدش كرامتنا، وأساء إلى ديننا الذي يمقت قتل النفس بغير حق، ويحرم العدوان على الأبرياء المسالمين بغير سبب.
بل امتدت يد الإجرام، إلى أنه يعتدي المسلم على أخيه المسلم، وأن يحاول بكل طرق المكر والاحتيال، أن يهين كرامته، إما بسبه والاستهزاء به، وإما بسرقة أمواله، وإما بإكراهه على إعطاء الرشوة لقضاء ما يستحقه من مصالحه وحاجاته، وإما بضربه وتهديده بالسلاح الأبيض. بل قد يرتقي الأمر إلى درجة قتله، من أجل دريهمات معدودات.
نسجل هذا بكل أسف على بلدنا الحبيب، الذي نتوق إلى ازدهاره، ونتشوف إلى سبقه، ونطمح إلى رفع قدره، وإعلاء مكانته بين الأمم.
ها هي المصالح الأمنية – مشكورة – تخبرنا بأنه خلال الفترة من 1 إلى 18 غشت الجاري، تم توقيف 28522 شخصا لتورطهم في الاشتباه في قضايا إجرامية، الموقوفون منهم في حالة تلبس قرابة 21000 شخص، من بينهم أكثر من 7000 شخص تم ضبطهم من أجل حيازة وترويج المواد المخدرة والمؤثرات العقلية، مع حجز قرابة 94000 ألف قرص مخدر، وأزيد من 800 كلغ من أحد المخدرات، وتوقيف أزيد من 1300 شخص لحيازتهم واستعمالهم السلاح الأبيض. كل هذا في ظرف ثمانية عشر يوما.
وهذا تقرير أممي ينعتنا – مع شيء من التحفظ -بأن جرائم القتل عندنا- على الرغم من الجهود الأمنية الجبارة المبذولة – في ازدياد مستمر، انتقلت من 461 حالة سُجلت سنة 2000، إلى 704 حالة سنة 2012، ما يمثل ارتفاعا ب 52%. ووضح التقرير أن معظم الضحايا ومرتكبي جرائم القتل عندنا هم من الرجال، بمعدل 87.8%، ومن الإناث بمعدل 12.2%.
يجري هذا وبيدنا كتاب ربنا الذي يحذر من إزهاق الأرواح، ويشدد عقوبة المعتدي على النفوس. يقول -تعالى-: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا). ويعمق رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة هذه الجريمة بما جعل الصحابة الكرام يندهشون. فعن أبي موسى الأشعري رضية الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ بين يَدَيِ السَّاعَةِ الهَرْجَ”. قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: القَتْلُ، إنَّهُ ليس بقَتْلِكُمُ المُشْرِكِينَ، ولكنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حتى يقتلَ الرجلُ جارهُ، ويقتلَ أخاهُ، و يقتلَ عمَّهُ، و يقتلَ ابنَ عمِّهِ”. قالوا: و مَعَنا عُقُولُنا يومَئذٍ؟ قال: إنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أهلِ ذلكَ الزَّمانِ، ويَخلُفُ لهُ هَباءٌ مِنَ الناسِ (أي: قليلو العقل)، يَحْسِبُ أكثرُهُمْ أنَّهُمْ على شيءٍ، و لَيْسُوا على شيءٍ” ص. سنن ابن ماجة.
وها نحن اليوم نسمع بمن يقتل أباه، أو أمه، أو جدته، أو ابنه، أو أخاه، أو أحد أقاربه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً***وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
أما موضوع الجنس، فقد صار -هذه الأيام- حديث العام والخاص، ومادة الصحف والجرائد، سيما بعد ما صار يسمى بحادث فتاة الحافلة، ومحاولة جماعة من المراهقين اغتصابها، على الرغم من إعاقتها الذهنية، مما يذكرنا بحالات الاعتداءات الجماعية على القاصرات في مناطق متعددة، بعضها انتهى بمأساة القتل أو الانتحار. واليوم ينشر خبر فتاة أخرى ذات إحدى عشرة سنة، اغتصبت من طرف ابن جيرانها، مستغلا خللها العقلي، والحوادث من هذا القبيل تكاد لا تنتهي، مما ينذر بتحدر شديد لمنظومة القيم وروح الإنسانية عند بعض شبابنا، الذين بعدوا عن التربية الدينية السليمة، التي تحجزهم عن الفاحشة، وتنأى بهم عن الرذيلة.
وتوالت جرائم الحافلات، لتتجاوز التحرش إلى السرقة، ومضايقات الركاب، والاعتداء على موظفي النقل، والمجاهرة بالامتناع عن أداء واجبات النقل، والتدخين وسط الركاب، والنطق بالألفاظ النابية، وغيرها من الاعتداءات التي سَجلت – في إحدى مدننا – ارتفاعا بنسبة 66% مقارنة مع سنة 2015، بعد ضبط أزيد من 14000 حالة اعتداء في هذه الفترة، الجسديةُ منها قاربت 900، وتسببت في فقدان 16000 يوم عمل، بخسائر مالية تقدر ب 22 مليون درهم، مما حول استعمال هذه الوسائل – التي جعلت لنقل الناس لقضاء حوائجهم – إلى مغامرة مجهولة العواقب.
إن أسباب هذا الانهيار الأخلاقي عند بعض أبنائنا وشبابنا يمكن إرجاعها إلى أمور عديدة، ولكن يبقى أبرزها ضعف تضافر الجهود في إحاطة هؤلاء الشباب بسياج متين من الأخلاق الفاضلة، التي تحث على احترام الآخر وتوقيره، والوقوف في وجه من يريد إهدار كرامته، والاعتداء على شخصه أو ممتلكاته.
إن التربية الدينية الصحيحة، المفضية إلى الخوف من الله، كفيلة بتقوية درجة الإيمان عند أبنائنا، التي يجب أن يتلقوها داخل الأسرة، ويتنفسوها في الشارع، والمدرسة، والجامعة، والمساجد، وفي كل مكان. فلا تستقيم الجريمة مع الإيمان الصحيح، ولا يجتمع الاعتداء والظلم مع اعتقاد العقاب من العليم الخبير. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ” متفق عليه.