اندحار أولي الألباب وانتصار حماة الكلاب؟
هوية بريس – محمد كرم
تنبيه استهلالي : هذا المقال، و الذي تم تحريره انطلاقا من وقائع حقيقية بنسبة 99.99%، يتضمن مشاهد قد لا تلائم الجمهور الناشئ.
بعد متابعتنا للعد العكسي لبداية السنة الميلادية الجديدة على شاشة التلفزيون مثل معظم بسطاء هذا العالم، و بعد التهامنا لما توفر من حلويات شعبية و شوكولاته و فواكه غير معروفة المنشأ، و بعد تبادلنا لعبارات التهاني المألوفة أبت ابنتي إلا أن تلح على إعادتي إلى بيتي على متن سيارتها على الرغم من أنها تعلم بأن المسافة الفاصلة بين البيتين بسيطة نسبيا و بأني من هواة المشي. و في منتصف الطريق تقريبا، و بينما كان تركيزي منصبا على الرسائل الواردة على محمولي، توقفت السيارة بشكل مفاجئ و قوي اهتز معه كياني بأكمله. فقد تعمدت السائقة اللجوء إلى هذا التوقف الاضطراري لتمكين قطيع ضخم من الكلاب الضالة من عبور الطريق، إلا أنه تبين فيما بعد أن هدف هذه الكائنات الحقيقي كان هو قطع الطريق علينا و الشروع في مهاجمتنا على منوال قطاع الطرق الآدميين مدفوعة إلى ذلك بالجوع في الغالب و كذلك باقتناعها بأن زمن الاحتجاز التعسفي و التقتيل الهمجي للكلاب قد ولى.
أحكمنا إغلاق النوافذ طبعا و ظلت ابنتي تناور و تناور في سعيها لإيجاد ممر يسمح بمواصلة الرحلة دون الاضطرار إلى إيذاء أي من تلك المخلوقات على الرغم من أن أحد أفراد العصابة لم يجد غضاضة في ركوب مقدمة العربة و التقدم في اتجاهنا، و لو كانت له القدرة الجسمانية على تكسير الواقية الزجاجية الأمامية لما تردد في نهش وجهينا. استغرقت المواجهة حوالي خمس دقائق مرت علينا و كأنها دهر و لم نر فيها غير الوحوش و لم نسمع خلالها سوى صوت النباح و لم نصادف جسما واحدا يشبه أجسام البشر في ذلك الوقت المتأخر من الليل علما بأن مكان الواقعة جزء لا يتجزأ من المدار الحضري و لا تعوزه الإنارة العمومية و ليس به أي مظهر من مظاهر الهشاشة أو التخلف… و جاء الفرج في نهاية المطاف دون تسجيل خسائر لا في الممتلكات و لا في الأرواح اللهم ما كان من حالة الرعب التي لازمتنا حتى بعد أن نفذنا بجلدنا.
كان المنظر من البشاعة بمكان. و خلال المدة التي فرض فيها الطوق على السيارة تمنيت لو حضر على وجه السرعة إلى عين المكان رئيس المجلس البلدي و وزير الصحة و الحماية الاجتماعية و رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان و ممثل عن من يحملون هم الرأفة بالحيوانات و كل من له علاقة بالموضوع من قريب أو بعيد. لم تكن الغاية من الأمنية هي جعلهم شهودا على ما كان يحدث أمامنا و حثهم على اتخاذ ما يلزم من إجراءات لوضع حد نهائي للظاهرة إذ لم يكن هناك داع لتسطير هكذا هدف بعدما اتضح بأن الانتقادات و الاحتجاجات الشفوية منها و الكتابية مضيعة حقيقية للوقت. كل ما كنت أطمح إليه هو التقاط “سيلفي” معهم تظهر على خلفيته عينة من القطيع و ذلك على أمل أن يستعين به مؤرخو المستقبل في فهم جزء من خصوصيات هذه الحقبة من تاريخ المغرب الذي غدت فيه حياة الكلاب الضالة أقرب إلى التقديس من حياة البشر بعد عقود طويلة من التجند الرسمي و الممنهج لمحاربتها أينما وجدت.
ترى كيف كنت سأواجه الوضع لو ركبت رأسي و قررت العودة إلى بيتي وحيدا و راجلا ؟ أو بالأحرى، كيف كان سيكون الوضع لو تلقفني القدر و سلمني للقطيع ؟
أرفض إطلاق العنان لخيالي لتحديد السيناريوهات المرعبة الممكنة، إنما الشيء الوحيد المؤكد هو أن قدراتي العقلية المعدلة ما كانت لتسعفني في تحرير هذا المقال لو قدر لي أن أعيش هذا الاختبار الدنيوي الأليم مع البقاء على قيد الحياة.
لقد أضحت دوافع المأساة عصية على الفهم. فإذا كان لاستمرار تواجد الآلاف من المشردين و الحمقى و المتسولين بالفضاءات المفتوحة ما يبرره فإن استمرار تجول الكلاب الضالة بشوارع البلاد و بكل حرية أمر محير فعلا. بل المشهد برمته أضحى سورياليا في طبيعته : كلاب بلا أصحاب، و مسؤولون تائهون في سياق ينطوي على ضبابية قانونية و إجرائية مطلقة، و مواطنون قلقون بشأن سلامتهم و سلامة من يحبون، و سفسطائيون متطرفون و متحمسون يبذلون كل ما في وسعهم لإقناعنا بأن القضاء على كلاب الشوارع سيضر حتما بالتوازن البيئي و بأن تسميمها أو إطلاق الرصاص عليها وصمة عار على جبين الحضارة المغربية و عمل غير إنساني سيضر بصورتنا في دول القوقاز و منطقة بحر الكاريبي و بأن الحل يكمن في احتجازها مؤقتا مع تعقيمها و إعادتها إلى الشوارع و كأن هذه الوصفة كفيلة لوحدها بإعادة السكون و الطمأنينة إلى نفوسنا علما بأن مجرد النظر إليها يثير الغثيان فأحرى ترهيبها للكبار و الصغار من المارة أو إلحاق الأذى بهم.
إن ما عاينته مؤخرا إن دل على شيء فإنما يدل على الاستهتار الصارخ الذي تقارب به المعضلة التي ما فتئت تتفاقم حتى أضحت الحوادث المرتبطة بها من أبرز مواضيع النقاش العمومي و مادة ثابتة من مواد الجرائد و المواقع الإخبارية. أليس الأجدر ـ و قد أكون مخطئا في تقديري ـ تصدير هذه الكلاب إلى الأمم التي لا تمانع في استهلاكها ؟ بهذه الطريقة سنكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد : سنخلص شعبا بأكمله منها و سنطعم شعوبا أخرى تجد في قضمها و ابتلاعها لذة خاصة على أن تتولى سلطاتها مهام الذبح و السلخ و التقطيع و التسويق مع تحميلها تكاليف النقل البحري أو الجوي فقط.
فهل سيكون علينا انتظار حلول الأسابيع الأخيرة السابقة لانطلاق مونديال 2030 لرؤية مدننا بدون كلاب ؟ و هل ستكون كل الحواضر معنية بالتطهير أم فقط تلك المحتضنة لما سيبرمج من مباريات ؟ و هل ستعود الأمور إلى سابق عهدها بعد انتهاء العرس المونديالي أم أن هذه الصفحة السوداء من تاريخنا الحديث ستطوى إلى الأبد ؟ و في انتظار ما سيحدث ما العمل إذن لحماية جسدي من خطر كلاب الشوارع ؟
هل سيكون بإمكاني استخدام بندقية صيد أم أن هذا العمل هو بمثابة جريمة كاملة الأركان ؟
هل سيكون بإمكاني التسلح بسلاح أبيض أم أن ذلك يقع تحت طائلة القانون الجنائي ؟
هل يجيز لي القانون الاستعانة بصاعق كهربائي محمول أو بالحجارة إن توفرت أم أن ذلك نوع من الضرب و الجرح ؟
هل ستسمح لي السلطات على الأقل بنهر هذه الكائنات أم أنها ستعتبر هذا السلوك ضربا من ضروب السب و القذف ؟
و كيف لي أن أحب و أحترم حيوانا غير مأمون الجانب و لا أعرف ما إذا كان يبادلني نفس الشعور أم لا ؟
و هكذا، و كما ترى عزيزي القارئ، لا صوت يعلو على صوت حماة الكلاب. لقد نجحوا في فرض مضمون أجندتهم ضدا على رغبة شعب ربط الكلب منذ الأزل بالحراسة أساسا و ليس بالتسكع و السياحة… أما الشكايات المودعة بمصالح حفظ الصحة بمختلف البلديات فيبدو أن مستقبليها يفضلون التهامها حتى لا تترك أثرا لا بأدراج المكاتب و لا بسلال المهملات.
إضافة ختامية لها علاقة بما سبق : من أغرب ما التقطته أذناي منذ تشكلهما و أنا في رحم أمي تصريح إعلامي ل “مناضلة” مغربية شرسة تنشط في مجال الدفاع عن حقوق الكلاب ـ و ربما حتى حقوق الذئاب و الضباع ـ قالت فيه : حبذا لو كان لبني البشر و لو جزء فقط من صفات الكلاب (!!!!!!!!!)