اِبنك الرقمي

09 سبتمبر 2024 20:46

هوية بريس – حميد بن خيبش

تحت وطأة التكنولوجيا بألعابها وتطبيقاتها المتنوعة، انكمشت بشكل ملحوظ مساحة حضورنا في حياة أبنائنا. من كان يصدق أن جهازا بحجم الكف سيتحكم بالصغار فيحرم جلهم من شغب الطفولة اليومي، وبراءة الركض والتسلق، والسطو غير المسلح على ثمار الشجيرات، ناهيك عن الشكوى المستمرة للجيران حين يبرز أحدهم عضلاته على أقرانه؟

بين الأمس القريب واليوم جرى تحول مرعب داخل بيوتنا، حيث يهرع الطفل فور عودته من المدرسة إلى حبس انفرادي أمام شاشة الحاسوب أو نظيراتها من الأجهزة الرقمية. يتنوع استخدامه لها بين الترفيه والتواصل الاجتماعي أو للحصول على المعلومات. وشيئا فشيئا أصبحت التكنولوجيا الرقمية أسلوب حياة، وعالما قائما بذاته تتفوق فيه الشاشة على الواقع.

هناك في الدول المتقدمة، حيث يتم التخطيط لكل شيء وتصنيعه، دق المتخصصون ناقوس الخطر بشأن ما جلبته التكنولوجيا لعالم الأطفال: تم التخلي عن اللعب في الهواء الطلق والأنشطة البدنية الأخرى، حيث تقلص نصف قطر دائرة الطفل- وهو بالمناسبة مقدار المساحة المحيطة بالمنزل التي يتجول فيها الطفل بحرية- بنسبة مذهلة بلغت 90 في المئة. وازداد الميل إلى الحياة الخاملة وما يترتب عنها من سمنة وانخفاض في استهلاك الطاقة. وفي تقرير صدر عن مؤسسة التراث القومي ببريطانيا، ظهر مصطلح ” اضطراب نقص الطبيعة” لوصف نمط متوطن من السلوك، يؤكد على انفصالنا لأول مرة عن العالم الطبيعي.

سواء تعلق الأمر باستخدام الأجهزة الرقمية أو بإساءة استخدامها، فإن التحلي باليقظة من لدن الآباء ضروري لتحقيق التوازن بين فوائد العصر الرقمي وتهديداته. ورغم أن المتحمسين من الجانب الآخر يرون في الأمر استباقا لأضرار محتملة، وقد يشوشون حتى على الحجج القائمة على أساس علمي، كالتي عرضتها سوزان غرينفيلد، خبيرة العلوم العصبية، في كتابها (تغير العقل)، إلا أن هناك بالفعل سببا للقلق؛ فهل يعقل أن ننتظر حتى يبلغ الجيل الرقمي سن الأربعين كي نرصد الآثار والمضاعفات؟

على غلاف إحدى المجلات الأمريكية ظهر رسم كرتوني لكلب يكتب على الحاسوب وهو ينظر إلى كلب آخر قائلا: ” لا أحد يعرف أنك كلب على الإنترنيت!”. ويبدو أنه لخّص ما تسعى عدد من الدراسات لإثارته بشأن الصورة الذهنية الإيجابية التي نطرحها حول أنفسنا في مواقع وشبكات العالم الافتراضي. إن ما يعتري الطفل، بل والراشد كذلك، من خوف وضعف، وأسباب توتر في حياته العادية، يعزز الرغبة في إعادة اختراع شخصية متكاملة، فيحرص أثناء تفاعله مع المشاهدة الرقمية على عرض المميزات واللحظات الإيجابية، واستبعاد الجوانب السلبية والأوقات السيئة. هذا التصوير المثالي للذات يؤدي في النهاية إلى طغيان شخصيته الافتراضية، فيتولد لديه شعور يُعرف ب “فومو Fomo” أو الخوف من الفقد. يقول مارتن.إل.كوتشر، مؤلف كتاب (أطفال العصر الرقمي):” هذا العالم الافتراضي يشبه الحفلات والأعياد التي نتلقى فيها بطاقات التهنئة، ثم سرعان ما تنتهي تلك الأوقات ليتولد شعور يمكن ترجمته كالآتي: حياتي تبدو كئيبة للغاية، وعديمة الإعجاب مقارنة بحيوات الآخرين.”

يتحول البحث المستمر عن الإعجاب والردود الإيجابية إلى إدمان. ومع كل نقطة دوبامين يجري إفرازها يصير الطفل أشد نهما للمزيد، وتلك إحدى سمات السلوك الإدماني التي يمكن رصدها من خلال أربعة معايير هي:

-الاستخدام المفرط المقترن بفقدان الإحساس بالوقت.

-ردود الأفعال المصاحبة لمحاولة التوقف، وتشمل الغضب والتوتر والإحباط.

-الانغماس، ويعني احتياج الطفل لجرعة زائدة كل مرة لتحقيق النتيجة نفسها.

-التبعات السلبية مثل الكذب والعزلة الاجتماعية وضعف الأداء(1).

إن حديث المخاوف والأضرار ليس دعوة للعيش بمعزل عن التكنولوجيا، فهذا ادعاء لا يمكن أن يصدر عن عاقل في هذا العصر الذي يشهد ثورة رقمية هائلة. وبينما تبدي عدد من الأسر انزعاجها من استخدام الأطفال المتزايد للمشتتات الرقمية، كما تصفها فرنسيس بووث، فإن النظم التعليمية تسابق الزمن لتعميم التكنولوجيا في صفوف المتعلمين. ألا يبدو الأمر مفارقا؟

ليست المشكلة مع التكنولوجيا، تقول بووث، وإنما مع الخوف من الجديد، وثبات ردود أفعالنا تجاه التقدم الحديث. فالإنترنيت يضع تحت تصرف طفلك قاعدة ضخمة من البيانات، ويسمح له بالحصول على المعلومات التي تعد اليوم مفتاح القوة. وعلى شبكة الويب تتداول المواقع قصص أطفال حققوا استخداما مذهلا للمحتوى الرقمي، مثل قصة المراهق الأمريكي الذي قدم طرقا جديدة لاختبار بعض الأنواع الشائعة من السرطان بفضل تصفحه للمجلات العلمية على الانترنيت، والتي ثبتت سرعتها وقلة تكلفتها مقارنة بالطرق المألوفة.

كيف يمكن لطفلك أن يستخدم الأجهزة الرقمية دون أن تستخدمه؟

كيف يمكنه الولوج بأمان إلى عالم غير آمن؟ عالم لا يخلو من القراصنة والمتنمرين، وتجار البشر، ومرتكبي الجرائم الجنسية؟

تحدد الإجابة عن هذه الأسئلة مستوى الوعي الذي ينبغي أن يحكم اليوم علاقة الأسرة بابنها “الرقمي”، وسياسة الاستخدام التي يحتاجها كل بيت لضمان سبل الوقاية، والتقليل من المخاطر.

عادة ما يصنف الباحثون مجموعة المخاطر التي يواجهها الأطفال في العالم الافتراضي إلى ثلاث فئات:

مخاطر المحتوى: وتشمل كل محتوى غير لائق يتعرض له الطفل، كالصور الإباحية، ومشاهد العنف، والمواد التي تحرض على التمييز والكراهية.

مخاطر الاتصال: حيث يشارك الطفل في اتصال محفوف بالمخاطر مع شخص بالغ، أو أفراد يسعون إلى إقناعه بالمشاركة في سلوكيات خطرة وغير صحية.

مخاطر السلوك: حين يشرع الطفل في إنتاج محتوى أو إجراء اتصالات خطرة، كنشر أو توزيع صور جنسية، أو بثّ مواد تحرض على الكراهية (2).

ويذهب علماء النفس التنموي إلى أن التعرض لجزء من هذه المخاطر بات ضروريا للتكيف والصمود، خاصة وأن صناعة التقنية تتطور اليوم بوتيرة تفوق قدرة الآباء على الفهم، بل قدرة الحكومات نفسها على التشريع ووضع الضوابط.

إن الخطوة الأولى في مسار استخدام آمن للأجهزة الرقمية من لدن الصغار تبدأ من مراجعة سلوكياتنا، نحن البالغين. فنحن القدوة لأطفالنا شئنا أم أبينا، ووجودنا إلى جانبهم صار أكثر لزوما من ذي قبل. يتطلب الأمر إذن إمعان النظر في عاداتنا المتعلقة باستخدام الوسائط الرقمية، ووضع قواعد تسري علينا قبل توجيه الأطفال للالتزام بها.

والخطوة الثانية هي وضع تقديرات زمنية لأنشطة المشاهدة الرقمية، مما يسهم في تقليل المحتوى الذي يتعرض له. وينبغي للآباء التحلي بالهدوء في إكساب الطفل مهارة إدارة الوقت، واحترام الجداول الزمنية.

وأما الخطوة الثالثة فهي الحد من تعميم الخصوصية، والتمييز بين ما يمكن مشاركته مع “الغرباء”، وما يجب أن يظل حبيس النطاق الأسري. وللأسف فالوالدان بدورهما يُظهران نقص الوعي بخصوصيات الطفل حين يعرضانها على المشاهدة الرقمية، دون التنبه لما يمكن أن تسفر عنه من أضرار، كالتنمر الذي يمكن أن يستمر لسنوات على شبكة الإنترنيت.

وتقوم الخطوة الرابعة على زيادة الاهتمام بالتثقيف العاطفي، وتعليم الطفل كيفية احتواء مشاعره، والتنفيس عنها بشكل منتظم. وبذلك يترسخ لديه الوعي بأهمية مراعاة مشاعر الآخرين، وربط السلوكيات بالنتائج.

وتتمثل الخطوة الأخيرة في تدريب الطفل على آليات للتعبير عن المواقف المغايرة واختلاف الرأي، بل والمعارضة. وضبط ردود أفعالنا التي غالبا ما يتحكم فيها العناد.

منذ إلغاء الضوابط التنظيمية على الإعلانات الموجهة للأطفال، في ثمانينات القرن الماضي، سعت الشركات المتعددة لغزو خصوصية الأطفال، ودعمت التقنيات الجديدة التي تؤثر على أفكارهم ومعتقداتهم، مما يحفزهم على استخدام مفرط للتكنولوجيا. وضع كهذا يستنفر مسؤوليتنا كآباء لتحييد المخاطر، وتعزيز كفاء التعايش مع غزو رقمي مخيف!

ــــــــــــــــــــــــــ

  • مارتن.إل. كوتشر: أطفال العصر الرقمي. ص 125
  • تقرير اليونيسف لحالة أطفال العالم لسنة 2017. ص72

 

 

 

 

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M