برشيد: بين الثقافة الإسمنتية والأمل الثقافي (رؤية اجتماعية وفلسفية)

هوية بريس – الخامس غفير
كان اللقاء بحضرة الفنان والمبدع والكاتب المسكيني الصغير لحظة ذات دلالة عميقة في السياق الاجتماعي والثقافي الذي ساهمت فيه جمعية “الهدهد” بمدينة برشيد المغربية. لا يسعني بهذه المناسبة إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لمن كان سببًا في تنظيم هذه اللّمة الأدبية والإبداعية الجميلة، التي تمثل تجسيدًا حقيقيًا للتواصل الاجتماعي والبناء الثقافي بين ساكنة المدينة وكل الوافدين عليها.
وأوجه تحية خاصة لكل من ينافح من أجل الثقافة وإلى كل من يسعى إلى التحسيس بأهمية رد الاعتبار للفعل الجمعوي والتربوي من طريق الندوات واللقاءات الفكرية والصالونات السياسية، ويناضل حبا في طلب الحكمة وتخليق المشهد الثقافي بالمنطقة، في اعتقادي الشخصي؛ لا يمكن النهوض بقيم المعرفة، إن لم ننهض بمن يمثلون نخبة المجتمع المدني تأطيرا وتكوينا، ثم تحفيزهم على المساهمة في حدود إمكانياتهم قصد تعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية ويعملون على ترسيخ صورة إيجابية عن الفعل الثقافي بالمدينة.
مدينة برشيد؛ ككيان اجتماعي وثقافي، تستحق الأفضل. لهذا؛ يمكنني القول أنه من خوارم المروءة أن تسكت النخب البرشيدية على ما صار عليه المشهد الثقافي بالمدينة من تقهقر، وما تعيشه المرافق الثقافية من موت سرسري لمدة غير محددة ولأجل غير معلوم. ما من شك أن الحاجة إلى مرافق ثقافية وعلمية لبناء العقول وصقلها تعتبر مسألة حيوية لبنية المجتمع ولثقافة المدينة بمعناها السوسيولوجي، وكذا لمكانة وشرف أهلها وصورتهم أمام باقي المدن الأخرى القريبة والبعيدة.
إن الثقافة، وفقًا لبعض التصورات الفلسفية، هي “خلاصة لروح عصرها.” وفي بعض الأدبيات الأخرى هي “التعبير عن الروح القومية للأمة” وتجسيد فعلي للانتماء للمدينة التي يعيش فيها المرء، وتأكيد على غيرة أهل البلد. وفي المقابل يمكنني القول بأن غياب هذه المرافق يشكل لا محالة عقبة أمام التنمية الثقافية والاجتماعية المنشودتان لدى كل غيور على بلدته وموطن سكنه، الأمر الذي يساهم في ضعف الحصيلة الثقافية ويشهد على الفقر المعرفي والتكوين الفكري لدى شباب المدينة مما يؤثر على تفاعلهم الاجتماعي.
وبما أننا كنا في لقاء جمع رجال من الأدب والفن، هنا كان لابد لي من الإشارة إلى أن أبو الفنون الذي لم يأخذ حظه في النقاش أثناء التفاعل مع الضيف الكريم، فإنني أصفه باستعارة وصف السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو للسوسيولوجيا بكونها “علم مزعج” ولذلك فهو الاخر مزعج لأنه فاضح لنوايا وأسرار المسؤولين ولذلك يجتهد البعض منهم في الاستمرار في وأد التجربة المسرحية البرشيدية.
ولا شك؛ أن دُور الشباب باعتبارها مؤسسات ثقافية وتأطيرية وتكوينية، لا ينبغي أن ننسى بأنها تلعب دورًا محوريًا في التنشئة الاجتماعية والتعليم غير الرسمي ولذلك وجودها ضرورة جمعوية وقانونية وواجب على كل من يحمل صفة الفاعل الجمعوي والمدني؛ وكل من يهتم بالشأن المحلي.
لا غرو أن إغلاق دار الشباب جمال الدين خليفة على سبيل المثال لا الحصر بحجة الإصلاح والترميم يحرم شباب المدينة وغيرهم من فرص التعبير عن الذات وتطوير مهاراتهم الاجتماعية والثقافية وصقل مواهبهم، بل في اعتقادي إن هذا الإغلاق يمثل جريمة في حق الثقافة والفن والإبداع وفي حق الشباب البرشيدي الذي أضناه التعب من الفراغ القاتل الذي بات عنوان المرحلة والعمر الشبيبي؛” إن الشباب والفـراغ والـجـدة *** مفسدة للمـرء أي مـفـسـدة.”
وبالعودة لعُشاق الرّكح، أجدني ملزماً بتبني الشهادة المشهورة التي قيلت في حقه؛ أنه بمثابة “المرآة التي تعكس روح المجتمع”، وبالتالي فإن عدم وجود هذه المؤسسات يؤدي إلى تراجع في التواصل الثقافي والاجتماعي ونصبح في مدينة بلا حياة وفي جغرافية مطبوعة بالأشباح.
برشيد، بتاريخها الجمعوي والمسرحي وبكفاءاتها المتميزة، تواجه تحديات كبيرة بسبب سياسات الجشع والتخطيط العمراني الذي يركز على البنية التحتية الإسمنتية. هذا النوع من التطوير العمراني فرض على أغلب الساكنة نمط حياة العزلة والعيش في “صناديق إسمنتية”، وهو ما خلّف جملة من العوائق ومن أبرزها عائق التفاعل الاجتماعي وقتل جودة الحياة. صحيح إن البيئة العمرانية الجيدة هي التي تصنع الإبداع وهي التي تؤسس لحياة أفضل وتذكي في كل من ينتسب إليها روح الإنتاج الفني والأدبي والمسرحي، وهي تلك التي “توفر بيئة ملائمة لحياة الفضيلة والسعادة” بتعبير اليونان القديمة، إلا أن هذه البيئة لازالت تصارع الموت ولم ترى الحياة بعد، جراء معاول الهدم التي تبطش بها من كل جانب، ولم تتخلص من قيود الرقابة وسيف الإعدام الذي وُضِع على وريدها.
لنرفع؛ الصوت عاليًا من أجل فتح الأبواب للإبداع والثقافة والفن الهادف، ولنصرخ بقوة في وجه دعاة الثّقافة الإسمنتية والمجالس البلدية، بُغية تحقيق بيئة تشجع على التفكير الحر والتعبير الفني. الثقافة ليست فقط عنصرًا من عناصر الترفيه، بل هي عامل رئيسي في بناء الهوية الاجتماعية وتعزيز الروابط الاجتماعية. إن الحق في الممارسة الثقافية والفعل الجمعوي، هما معياري التأكد من سلامة عقول من يقفون وراء تدبير الشأن العام، وميزان نقيس به مدى نبض قلوب المسؤولين بالحياة، وتنسمهم عبق “تمغربيت” الحقيقية بلغة الدكتور سعيد بنيس، والجدير بالذكر أن أي نقص في كمياء الثقافة والفعل الثقافي، “تكون الحياة مجرد وجود فيزيائي بلا معنى.”
وفي الأخير اتقوا الله في هذه المدينة وساكنتها وكفاءاتها، وافتحوا الباب للإبداع والثقافة والفن الهادف. و”باركا ثم باركا ..” من التضييق على النخب الثقافية والفكرية والأكاديمية المحلية والوطنية.