برمجة رواية “صندوق العجائب” (الأولى باكلوريا) تندرج ضمن الجريمة التربوية

01 يوليو 2024 15:33

هوية بريس – أمين بلحاج

يمكننا القول إن مقرر الفرنسية للسنة الأولى باكلوريا قد دخل بشكل أو بآخر ضمن مجال اهتمام كل أسرة مغربية خلال العشرين سنة الماضية (نظرا لكونه بقي دون تغيير طيلة هذه المدة).

وهكذا فقد حضر، ولو لمرة واحدة، “سيدي محمد” بطل رواية La Boïte à Merveilles وأونتغون بطلة مسرحية Antigone ضمن حديث أية أسرة لها ابن في سلك الثانوي.

لكن، وبعيدا عن حديث الجدوى التعليمية والمعرفية شبه العبثية وراء اختيار هاته الأعمال، ذات البعد الفلسفي والأدبي الكثيف والمتشعب، ضمن مقرر يزعم واضعوه أن الهدف الأساسي منه هو تعليم اللغة والتواصل بالدرجة الأولى، هناك مأساة حقيقية يخبرنا بها اختيار هذين العملين الادبيين للتلاميذ المغاربة، بل إن الجمع بين هذين العملين يمكن تسميته في حد ذاته بالمأساة الساخرة:

أولا، لنلق نظرة على السياق التاريخي لتأليف الكتابين، والذي ينص المقرر بكل اطمئنان ضمير (أو بكل وقاحة) أن يطلع عليه التلاميذ:

كتب أحمد الصفريوي La Boîte à Merveilles (صندوق العجائب) سنة 1952 خلال الاستعمار الفرنسي للمغرب، ونشرته له دار النشر الفرنسية Seuil. أما المواضيع المثارة في هذه الرواية السيرة الذاتية، فهي كل شيء يحب المستعمر أن يراه أو يتخيله في المجتمع المغربي كمجتمع شرقي تقليدي و غامض (الحمام الشعبي، الشعوذة، الأضرحة، المراسيم و العادات، طقوس الجنائز، الأسواق، معلم القرآن القاسي والغبي شيئا ما..) وطبعا لم يكلف الكاتب نفسه عناء بث أية إشارة حول وجود الاستعمار وأثره على المجتمع، فضلا عن أن يدخل في مواحهة فكرية معه. بل إنه كان من أوائل من فهمو لعبة المغازلة الصامتة للمستعمر من خلال مداعبة الحلم الاستشراقي لدى المستعمر حول المجتمع المغربي كمجتمع لغز لذلك عنون روايته بـ”صندوق العجائب”. هكذا يرتسم في ذهن التلميذ نموذج ما يمكن للمفكر أن يقدمه عن مجتمعه للآخر، حتى حين يكون هذا الآخر عدوا. بل إن بعض الأساتذة يجتهدون ويشرحون للتلاميذ أن الكاتب كان يسهم في التعريف بأصالة مجتمعه، وينسون أن تلك الصورة من الأصالة الوديعة المغيبة المتخبطة في السذاجة هي ما يريده المستعمر أن يسود.

أما المؤلف الثاني الذي يقترحه واضعو المنهج، فهو تراجيديا Antigone للكاتب الفرنسي Jean Anouilh التي كتبها في 1942. فهي أيضا كتبت أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، لكن الكاتب لم يتمكن من نشرها إلا بعد خروج الاحتلال. هذه المصادفة تضعنا أمام مقارنة لم يطرحها أحد (حسب اطلاعي) خلال هاته السنوات العشرين: هل تناول الكاتب في هاته التراجيديا قصص الجن والكنيسة والأجبان الفرنسية واللباس والأسواق؟

يقول جون أنوي عن مسرحيته أنه كان يرمز من خلال الصراع التراجيدي الي يدور فيها بين شخوص من الحقبة اليونانية ينتهي بالموت، كعادة التراجيديا، إلى التحدي الذي كانت المقاومة الفرنسية تخوضه ضد القوة الجبارة للمستعمر النازي.

هكذا نعلم التلاميذ المغاربة أنه حين يكون المغرب مستعمرا فإن المبدع النموذجي هو من يقدم للمستعمر صورة “هداوية” عن مجتمعه ونقول له أن هذا هو نوع المواجهة الحضارية التي يجب ان يواجه بها الآخر. ونسمي ذلك أدبا مغاربيا وندرسه للأولاد على أنه تيار ادبي بينما هو كما سماه المفكر بنسالم حميش “شبه أدب” (paralittérature).

وعندما تكون فرنسا هي التي تحت الاحتلال فإن الكاتب أو المبدع النموذجي هو الذي يقدم أبطالا يتحدون السلطة والقانون المسيطر وإن كلفهم ذلك حياتهم.

فكم من أستاذ استغل كل هاته المعطيات التي يلقنها لتلاميذه بكل براءة أو بكل تفان ليوقظ حسهم النقدي عبر هذه المقارنة الصارخة بالدلالات. وكم من تلميذ من أصحاب 19/20 حصل على الباكلوريا وهو يحمل قراءة ناقدة للكتابين؟

ربما لا ينتبه واضعو المقرر، ولا الأساتذة ولا المفتشون إلى أن برمجة رواية “صندوق العجائب” تندرج ضمن الجريمة التربوية.

ليس لما سبق وحسب، وليس أيضا لكونها صدرت تحت دار نشر فرنسية، بينما كاتب مسرحية Antigone لم يستطع نشرها أثناء الاحتلال الألماني لبلاده، بل لما سيأتي:

حين ندرس للأولاد أن ما يكتبه كتاب مغاربة وتنشره فرنسا هو نوع من الأدب والفكر، فهذا تدليس يستحق أصحابه المحاكمة، لأن فرنسا لم تكن ترعى الفكر و لا الأدب وإنما كان كل من ترضى عنه يقدم لها خدمة على حساب مجتمعه. الدليل الذي لا يعرفه واضعوا المقرر هو أن فرنسا التي نشرت لأحمد الصفريوي الذي يتحدث عن البلاهة والتخلف لشريحة من الشعب المغربي، كانت تمنع العلامة والمفكر عبد الله كنون من نشر وتداول كتابه الذي سيصير مرجعا في الأدب والتاريخ والفكر وهو المعنون (وياللغرابة) بـ”النبوغ المغربي”. هذا الكتاب العظيم لم يكن يحتوي على تحريض او تحد للاحتلال، و إنما كان يرسخ العظمة و العبقرية المغربية في الفكر و الأدب و السياسة، و يؤكد على الدور الكبير للغرب الإسلامي في بناء الحضارة الإسلامية ككل و حمايتها.

قد تكون صورة ‏نص‏

هذا العمق الحضاري للمغرب كجناح قوي للحضارة الإسلامية في حد ذاته جعل الاحتلال يمنع الكتاب. أي أنه إذا كانت الكتب التي تربط المغاربة بالحضارة و الرقي تثير خشية و توجس فرنسا فإن الكتب التي تسمح بها أو تدعمها فرنسا هي بالضرورة تساهم في حجب العمق الحضاري الحقيقي للمغرب، وتسير في خدمة مشاريعها.

وبمقارنة الكتابين، ليس من حيث الفحوى، بل فقط من حيث الشكل والفخامة نرى الفرق بين الكتاب الحقيقيين وبين الأقزام الذين صنعتهم فرنسا ويحرسهم اتباعها إلى الآن في أذهان الشباب.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M