بشأن التعديلات الخاصة بمدونة الأسرة

14 يناير 2025 12:26
تفاعلا مع ما جاء في تدخل رئيس حركة التوحيد والإصلاح.. ملاحظات بسيطة ذات دلالات كبيرة

هوية بريس – د. إدريس أوهنا

بصفتي أستاذا باحثا مهتما بقضايا الأسرة، وإسهاما مني في النقاش العمومي حول مراجعة المدونة تنويرا للرأي العام، أعرض آرائي في الموضوع من خلال محاور ثلاثة:
المحور الأول: مقدمات تسع؛
1- التعديلات المعروضة علينا لحد الساعة هي مجرد عناوين مجملة بحاجة إلى بيان وتفصيل، ولا يمكن الحكم عليها بدقة إلا بعد الاطلاع على تفاصيلها.
2- ما عرض علينا لحد الساعة قليل من كثير، إذ التعديلات المقترحة تتعلق بما يربو عن مائة مادة في المدونة، ولم يصلنا إلا عناوين وإشارات لبعضها فقط.
3- المجلس العلمي الأعلى هو الجهة المخولة رسميا للنظر الشرعي في التعديلات ذات الصبغة الشرعية، والمعلن أنه وافق على أغلبها، ورفض المساس بثلاث مسائل قطعية وهي: المحافظة على أصل التعصيب في الإرث، ورفض إثبات النسب الشرعي بالخبرة الجينية، وإبطال التوارث بين المسلم والكافر.
4ـ نقلا عن الدكتور أحمد الريسوني، قال: “قاعدة: (لا تحليل للحرام ولا تحريم للحلال) هذه القاعدة لم تنتهك إلا في مسألة التعدد.”
5- لا تعويل على القوانين مهما كانت منصفة في إصلاح الأوضاع الاجتماعية بمنأى عن التربية الإيمانية والأخلاقية، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية.
إن القوانين، سواء تعلقت بالأسرة أو بغيرها، لا تنفع في الناس رادعة ومقومة ما لم تتم تربيتهم على الفضائل، وتزكية نفوسهم بالمكارم.
وعلى الدولة أن توجه عنايتها للتربية الصالحة عبر مؤسسات التعليم والإعلام والفن ودور الشباب وغيرها، وتضع حدا لمعاول هدم القيم والأخلاق، وللتفاهة والسفالة، والفسق والفجور، والمخدرات والخمور…
وعليها أن ترتقي بالمواطنين في هرم العالم النفساني “ماصلو” إلى مستوى “تحقيق الذات”، لا الوقوف بهم عند درك “الاحتياجات الفيزيولوجية”؛ فلا يعرفون للكرامة سبيلا، ولا للوعي والرقي الفكري والسلوكي طريقا.
عندما تهدر إنسانية المواطن بالفساد والاستبداد، بالبطالة والفقر والمرض والجهل والقهر والحرمان.. كيف يكون زوجا صالحا، أو تكون زوجة صالحة، وأنى لهما أن يربيا أبناء صالحين بله مصلحين !!
إن أساس الصلاح والإصلاح، والحق والإنصاف، تربية صالحة، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية، فما شذ بعد ذاك قومته القوانين. أما أن يعول على القانون بمنأى عن التزكية والتربية، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فتعويل على سراب !!
6- لا إصلاح حقيقي إلا في إطار مقاربة شمولية، لا تقف عند مراجعة قانون الأسرة فقط؛ ولذلك علينا أن ننتبه، فما يثار من نقاش حول مدونة الأسرة على أهميته وراهنيته ينبغي أن لا يلهينا عن قضايا أخرى غاية في الأهمية: الفساد- الاستبداد- التطبيع والصهينة- أزمة التعليم والصحة- واجبنا نحو القضية الفلسطينية- العلمنة- البطالة- الرشوة والمحسوبية- غلاء الأسعار- التفاهة- نهب المال العام- تضارب المصالح، وغيرها من القضايا الحارقة.
7- لا شرعية لأي تعديل يتجاوز الدستور القاضي بأن دين الدولة هو الإسلام، وأن المعني بمواد المدونة هم المغاربة المسلمون؛ ولذلك أي قانون خرج عن هذا الإطار المرجعي يعتبر قانونا فاقدا للشرعية.
8- صيانة الحقوق لا تتعلق بالزوجين فقط، بل على الدولة أن تتدخل من مالها وخزينتها في حالات بعينها لترفع الضرر عن المتضررين من الأزواج. فكما تجبي الدولة الضرائب من المواطنين، عليها أن تتكافل مع المعسرين.
9- النظر الاجتهادي في بعض مواد المدونة ينبغي أن يكون من أهله (العلماء وأهل الاختصاص)، في محله (الظنيات لا القطعيات)، بدليله (التأصيل الشرعي وفقه الواقع)، وبمنهج معتدل لا يتمركز حول الأنثى، ولا يتمركز حول الذكر، ولا يجنح إلى الجمود الرافض لكل تجديد، ولا إلى الانفلات الرافض لكل تقييد.
المحور الثاني: التعديلات التي أتفق معها إن وافقت عند صدورها المضامين الآتية:
– تخويل الأب الولاية أو النيابة القانونية على الأبناء ما دامت العلاقة الزوجية قائمة، وما دام أهلا، وحاضرا غير غائب، مع تمتيع الأم الحاضنة بهذا الحق أيضا في حال الطلاق، أو في حال انتفاء أهلية الأب، أو غيابه، ولا يقدم وصي الأب على الأم، سواء قيد حياة الأب أو بعد وفاته، بخلاف ما جاء في المادة 237: “يجوز للأب أن يعين وصيا على ولده (…)تعرض الوصية بمجرد وفاة الأب على القاضي للتحقق منها وتثبيتها”؛ لأن الأم أرفق بأبنائها وأشفق عليهم، إلا أن يكون المحضون عرضة للضرر، سواء تزوجت أو لم تتزوج، كتعرضه للإهمال أوالعنف أو ما إلى ذلك، فتنزع منها الحضانة؛ حفاظا على المصلحة الفضلى للمحضون، التي عليها مدار الحكم.
– إحداث مؤسسة مستقلة للصلح أو الوساطة الأسرية، من أهل الاختصاص؛ للسعي الحثيث في إصلاح ذات البين بين الزوجين وثنيهما عن الطلاق ما أمكن؛ حفاظا على عش الزوجية وعلى مؤسسة الأسرة من الهدم والتفكك.
     كما على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها في تأهيل المقبلين على الزواج.
– إبرام الطلاق الاتفاقي عند العدول دون حاجة إلى عرضه على المحاكم، ينبغي أن يكون مشروطا باستيفاء مسطرة الصلح، والمدة المحددة له، عسى أن يتراجع الزوجان عن رغبتهما في الطلاق الذي هو خلاف الأولى؛ قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء 19)، وفي حديث مرسل: “ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق”.
– اعتبار العمل المنزلي مساهمة مالية في الثروة المكتسبة خلال فترة الزوجية، من التعديلات التي وافق عليها المجلس العلمي الأعلى؛ مما يضمن للزوجة -في تقديري- حقوقا مالية في حال الطلاق خاصة، لا في غير الطلاق.
وأي كلام عن الطعن في تثمين العمل المنزلي ورفضه بإطلاق، لن يقدم من حقيقة الأمر شيئا ولن يؤخر؛ ولذلك لزم تغليب صوت الحكمة بالدعوة إلى ترشيد هذا التثمين لعمل المرأة المنزلي عوض نقضه الذي لن يتم في الغالب؛ وذلك بتحديد نسبة لا يتضرر بها الزوج وتنصف بها المطلقة على مجهوداتها وتضحياتها خلال فترة الزوجية؛ حيث تقضي مع زوجها سنين طويلة أو عقودا، تقوم بشؤون البيت وتتحمل أعباءه، ويتفرغ هو للعمل وتنمية ثروته خارج البيت مرتاح البال ومطمئنا على بيته وعياله، فلربما بعد ذلك رغب في الزواج بصغيرة ذات جمال، فيطلق من تحملت معه الأعباء سنين عددا؛ لتتربع المحظوظة الجديدة على عرش ثرواته وممتلكاته.
ولا يقال إن للمطلقة “المتعة”؛ فإن “المتعة” ليست لقاء العمل المنزلي؛ إذ تجب على الزوج عند الجمهور، ولم يعللها أحد بعملها في البيت؛ إنما عللوها بجبر خاطر الزوجة جراء الإيحاش والألم الذي يتسبب لها فيه الطلاق والفراق.
ولا يقال: فقد كان ينفق عليها، فكيف يكون لها حق في الثروة المكتسبة خلال فترة الزوجية مع إنفاقه عليها؛ لأنه معترض بكون إنفاقه عليها هو مقابل القوامة (طاعة الزوج في المعروف) بنص القرآن: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}، ولقاء الاستمتاع لا الاستخدام،  والإنجاب.. وإلا فإنفاقه عليها واجب سواء عملت في البيت أو لم تعمل، بمقتضى أن عملها فيه عند كثير من فقهائنا ليس واجبا عليها، بخلاف من قال بوجوبه كأبي ثور والطبري.
 ولا بد -إلى جانب تحديد نسبة عادلة- من تحديد شروط وضوابط لتثمين عمل المرأة المنزلي حتى لا يخرج عن حد التوازن والعدل إلى الإجحاف والظلم، ومن الإجحاف والظلم الذي ينبغي أن يرفض اعتماد قاعدة المساواة الميكانيكية أو المناصفة في تحديد حق الزوجة المطلقة في الأموال المكتسبة خلال فترة الزوجية لقاء تفرغها للعمل المنزلي.
والمعتمد في هذا النظر -أي تثمين العمل المنزلي- من الناحية الفقهية رأي الفقهاء القائلين بأن عمل المرأة المنزلي ليس بواجب عليها، وتؤجر عليه إلا أن تطوع، ومنهم نقلا عن الشيخ محمد التاويل رحمه الله بمقال له بجريدة المحجة، العدد 129، بتاريخ 01 مايو 2000م: الإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي والطحاوي والظاهرية.
– الحفاظ على حضانة الأم المطلقة بعد زواجها ما لم تتعارض مع مصلحة المحضون.
– استمرار السماع لدعوى الزوجية وعدم غلق الباب أمام توثيق الزواج العرفي؛ حماية للحقوق.
المحور الثالث: ما لا أتفق معه؛
على رأس التعديلات التي لا أتفق معها ما رفضه المجلس العلمي الأعلى لمخالفته الأدلة القطعية، وهي أمور ثلاثة:
– إلغاء العمل بقاعدة التعصيب.
– استعمال الخبرة الجينية لإثبات النسب الشرعي.
– التوارث بين المسلم وغير المسلم.
وإلى جانب المسائل الثلاثة لا أتفق مع الآتي كذلك:
– التضييق على تعديد الزوجات تضييقا شديدا أقرب إلى المنع، والله تعالى يقول:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تعولوا} النساء3
أما حصر أسباب التعديد في عقم الزوجة، أو إصابتها بمرض تستعصي معه المعاشرة الزوجية، أو ما في حكمهما، فأقرب إلى المنع منه إلى الإباحة، وسيفضي إلى مفاسد كبيرة، منها:
+ انتشار الزواج العرفي.
+ ارتفاع نسبة الخيانة الزوجية، ولسان الحكمة يقول”تعدد الحليلات أولى من تعدد الخليلات”.
+ تزايد الإقبال على الطلاق الذي ارتفعت نسبته في مجتمعنا بشكل مهول.
– إجبارية استطلاع رأي الخطيبة بخصوص رفض التعديد عليها أو قبوله، والتنصيص على ذلك في عقد الزواج مرفوض كذلك؛ إذ لا يخفى ما في هذه الإجبارية من مجانبة للذوق السليم، ومن زرع للشك والارتياب والتهمة وسوء الظن بين الزوجين منذ بداية المشوار. والأصل أن تبنى العلاقة بينهما على الثقة والمودة والوفاء ونية التأبيد والاستمرار؛ فلا معنى إذن للإبقاء على هذه الإجبارية، والصواب أن يترك الأمر في الشروط للاختيار لا للإجبار.
– اعتبار ديون الزوجين التزامات مشتركة بشكل مطلق، حتى لو كان أحدهما هو المتسبب فيها، ولا دخل للآخر فيها.
وعور هذا المقترح وخواره أظهر من أن يرد عليه، وكيف لعاقل أن يصدر عنه مثل هذا الهذيان؟! فلا داعي لإطالة الوقت في التعقيب عليه.
– استثناء “بيت الأسرة” من التركة، بعد وفاة أحد الزوجين، وإيقاف توزيعه على الورثة؛ لينتفع به الزوج الباقي على قيد الحياة – الزوج هنا للمؤنث والمذكر، وإن كان الغالب في الواقع أن ينطبق على الزوجة-، من أفسد ما يمكن اعتماده.
وبيان وجه الخطأ في هذا النظر من جهتين:
الأولى: أن استثناء السكن الرئيسي أو سكن الأسرة من التركة لا علاقة له بما عرف في الفقه الإسلامي ب:”العمرى” و”الرقبى”.
وليفهم عني المتخصص وغير المتخصص أورد أولا وقبل كل شيء المراد ب:”العمرى” و”الرقبى”:
(التعريفان منقولان للأمانة من الشبكة العنكبوتية):
1- تعريف الْعُمْرَى:
الْعُمْرَى في اللغة: مأخوذة من العُمر؛ وهو الحياة.
الْعُمْرَى في الشرع: جعل المالك شيئًا يملكه لشخص آخر عمر أحدهما.
وَصُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَعْمَرْتُك دَارِي هَذِهِ، أَوْ هِيَ لَك عُمُرِي، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِك، أَوْ مَا حَيِيت، أَوْ نَحْوَ هَذَا. سُمِّيَتْ عُمْرَى؛ لِتَقْيِيدِهَا بِالْعُمُرِ، وهي نوعٌ مِن الهبة؛ (المغني لابن قدامة، جـ8، صـ282).
2- تعريف الرُّقْبَى:
الرُّقْبَى في اللغة: المراقبة والانتظار.
الرُّقْبَى في الشرع: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك، عَلَى أَنَّك إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك فَهِيَ لَك وَلِعَقِبِك، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا، وَ سُمِّيَتْ رُقْبَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ (ينتظر) مَوْتَ صَاحِبِهِ؛ (المغني لابن قدامة، جـ8، صـ282).
يظهر من تعريف “العمرى” و”الرقبى” أنهما يتعلقان بشيء في ملكية شخص وحيازته، فيملكه لشخص آخر، بقيود معينة.
واستثناء “بيت الأسرة” من التركة ابتداء بنص قانوني، لا ينطبق عليه حكم “العمرى” ولا حكم “الرقبى” بحال من الأحوال؛ حيث لا يتعلق بشيء تمت حيازته ثم ارتأى الحائز تمليكه لغيره، بل اقتطع واستثني من الميراث ابتداء، ليبقى في حوزة الزوج ما دام حيا، فإذا مات عاد للورثة.. هذا ما يدندنون حوله، ويحاولون تشريعه في المدونة المعدلة أو المعضلة لست أدري !!
ولا يخفى عور هذا النظر العاري عن أي أصل أو دليل يسنده إلا التعسف والتشهي، والعمل بالقياس الفاسد.
ولا يخفى كذلك أن العمل به تصرف في ميراث رب العالمين بالاقتطاع والاستثناء، واستدراك على قسمة الإرث القطعية، وكأن بها نقصا وجب تكميله، وخللا تحتم تصويبه، تنزه شرع الله عن ذلك !!
الجهة الثانية: من خلال العرض الذي تقدم به وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أمام جلالة الملك بشأن المسائل السبع عشرة المحالة على النظر الشرعي للمجلس العلمي الأعلى بخصوص مراجعة مدونة الأسرة، يظهر أن المجلس وافق على استثناء “بيت الأسرة” من تركة الزوج، من باب إيقاف البيت للانتفاع عمر الزوج الباقي على قيد الحياة.
ولعل المستند الشرعي للمجلس في اجتهاده ذاك هو حديث زَيْنَبَ رضي الله عنها ، أَنَّهَا كَانَتْ تَفْلِي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعِنْدَهُ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَنِسَاءٌ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ وَهُنَّ يَشْتَكِينَ مَنَازِلَهُنَّ أَنَّهَا تَضِيقُ عَلَيْهِنَّ ، وَيُخْرَجْنَ مِنْهَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ النِّسَاءُ ، فَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَوُرِّثَتْهُ امْرَأَتُهُ دَارًا بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ في شرح الحديث: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ أَقْطَعَ الْمُهَاجِرِينَ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ فَتَأَوَّلُوهَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ أَقْطَعُهُمُ الْعَرْصَةَ لِيَبْنُوا فِيهَا الدُّورَ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَصِحُّ مِلْكُهُمْ فِي الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْدَثُوهُ فِي الْعَرْصَةِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَقَطَعُوا الدُّورَ عَارِيَةً وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرُوزِيُّ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ الْمِلْكُ فِيهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَجْرِي إِلَّا فِي مَا كَانَ الْمَوْرُوثُ مَالِكًا لَهُ وَقَدْ وَضَعَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا إِنَّمَا أَحْيَوْا تِلْكَ الْبِقَاعَ بِالْبِنَاءِ فِيهَا إِذْ كَانَتْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ قَبْلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يَكُونُ نَوْعٌ مِنَ الْإِقْطَاعِ إِرْفَاقًا مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَذَلِكَ كَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَنَازِلِ فِي الْأَسْفَارِ فَإِنَّمَا يُرْتَفَقُ بِهَا وَلَا تُمْلَكُ فَأَمَّا تَوْرِيثُهُ الدُّورَ لِنِسَاءِ الْمُهَاجِرِينَ خُصُوصًا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَإِنَّمَا خَصَّهُنَّ بِالدُّورِ لِأَنَّهُنَّ بِالْمَدِينَةِ غَرَائِبَ لَا عَشِيرَةَ لَهُنَّ بِهَا فَحَازَ لَهُنَّ الدُّورَ لِمَا رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الدُّورُ فِي أَيْدِيهِنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْفَاقِ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمِلْكِ كَمَا كَانَتْ دُورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَحُجَرِهِ فِي أَيْدِي نِسَائِهِ بَعْدَهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الميراث فإنه صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ نَحْنُ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ.
ومن خلال متن الحديث وشرحه، وأقوال العلماء فيه، يتبين أن الحديث يحتمل عدة وجوه، وما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وقيل إن الحديث مخصوص بالمهاجرات؛ لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن، وقيل: منسوخ بآيات الإرث.
وقيل: إن مدار الكلام فيه، أي المخاطب بإبقاء المهاجرات في سكناهم هم أهل المدينة لا الورثة.
وعلى كل حال فإن الحديث بتطرق كل تلك الاحتمالات إليه لا يقوى على رد صريح القرآن في وجوب قسمة تركة الميت على ورثته، من غير أن يختص وارث منها بشيء،  وآيات المواريث موهنة للقول بالإيقاف، وأقل ما يقال فيه بناء على الحديث المذكور أنه تأويل بعيد مردود.
وإن سلم الاعتراض على بعض تلك الاحتمالات الموهنة، كالاعتراض على النسخ بعدم معرفة تاريخ النص، أو رد التخصيص بعبرة العموم، فإنه لا ينهض على ردها جميعها، ومما لا سبيل لرده قبول الحديث لعدة معان وأفهام بالتساوي، ما يجعله مجملا يفتقر إلى بيان.
ثم إن استثناء السكن من التركة، لم يمض عليه عمل بالمدينة، ولا قال به التابعون ولا الأئمة الأربعة، فهل خفي على هؤلاء ما ظهر للقائلين به أو الموافقين عليه ؟!
وأما دعوى مراعاة مصلحة الزوجة في حال وفاة الزوج، فليست مصلحتها أولى من مصلحة الأم والأخت والأبناء إناثا وذكورا.. هب أن رجلا طلق زوجته وله معها ثلاث بنات، ثم تزوج أخرى ومات، فالانتفاع بالسكنى بمقتضى “الإيقاف التعسفي” حق للزوجة لا ينازعها فيه أحد، والبنات حقهن التشرد والانتظار إلى حين وفاة زوجة أبيهن حتى يعود لهن حقهن الموقوف.
وقل الشيء نفسه عن الأم، حقها دار العجزة إلى حين رفع يد الزوجة بوفاتها عن البيت الموقوف، والغالب -والأعمار بيد الله- أن تموت الأم قبلها لعامل السن !!
أما إذا تزوجت الأرملة وماتت، فينتقل الانتفاع بالبيت إلى زوجها مدى حياته، ويعلق حق أبناء صاحب البيت الأصلي المتوفى في الاستفادة من بيت أبيهم إلى حين وفاة زوج أمهم !!
والصواب في تقديري المتواضع عدم التصرف في مشمولات الميراث بإيقاف ولا بغيره. وإذا أبان الواقع عن مشكلة اجتماعية في حالات بعينها، فعلى الدولة أن تتدخل لإيجاد الحل لرعيتها، كما تتدخل لجمع الضرائب منها.
– تمتيع المطلقة، وإعطاؤها نفقة العدة، بإطلاق، سواء كانت المتسببة بغير وجه حق في الطلاق، أو لم تكن، ظلم مكشوف للزوج؛ ذلك أن “متعة الطلاق” شرعت لرفع ما حصل للمطلقة من إيحاش وألم بسبب الفراق جبرا لخاطرها، فإذا كانت هي المتسببة في الفراق، من غير تقصير أو إضرار من الزوج (بعدم النفقة عليها، أو تعنيفها، أو ما إلى ذلك)،  فلا حق لها في متاع الطلاق، ولا إيحاش ولا ألم يصيبها بسبب الفراق وقد سعت إليه بغير وجه حق، كما لا حق لها في نفقة العدة إلا أن تكون حاملا، وهذا مقتضى العدل الذي ليس بعده إلا التمييز الجائر والظلم البائن.
وأؤكد: الأمر لا يتعلق بمن طلب الطلاق، إنما يتعلق بمن تسبب في الطلاق بظلم؛ فإذا كانت هي المتسببة، فكيف تكافأ ويغرم الزوج ولا ذنب له، ولم يسع في فراق؟!
والعمل بخلاف ما بينت سيؤدي إلى مآلات سيئة:
+ عزوف الرجال عن الزواج مخافة تحميلهم من النفقات ما لا يد لهم فيه.
+ ميل عدد من الزوجات للطلاق، وتسببهن في وقوعه؛ طمعا في مال الزوج بغير وجه حق.
– “طلاق الشقاق” الذي لا يحتاج في  إبرامه إلى إثبات الضرر الداعي إليه، أرى أنه وبال على الأسرة المغربية، وكان الأولى أن يحذف بالمرة ويكتفى بطلب التطليق عوضه؛ لأن التطليق يكون لأسباب معقولة وموصوفة شريطة أن لا يقتصر طلب التطليق على الزوجة فقط، بل يشمل الزوجين معا؛ لتعلق أسبابه بهما، وإن تفرد الزوج بسببين وهما: الإنفاق، والإيلاء،  وأسبابه كما في المادة 98 من المدونة هي:
1- إخلال الزوج بشرط من شروط عقد الزواج
2- الضرر
3- عدم الإنفاق
4- الغيبة
5- العيب
6- الإيلاء والهجر.
وأرى أن يضاف للمادة 98 المتعلقة بطلب التطليق، بأنه في حالة عدم الإدلاء بسبب أو مبرر طلب التطليق، أو غياب الإثبات، يعفى الطرف الآخر من أي تبعات، ولا يبرم الطلاق إلا بعد استيفاء مسطرة الصلح ومدتها.
إن طلاق الشقاق بصيغته الحالية ،حيث ينفذ بعد انتهاء مهلة ستة أشهر عن رفع الدعوى من غير حاجة إلى إثبات الضرر، مع تمتيع المطلقة بمتعة الطلاق، ونفقة العدة، بإطلاق، أدى وسيؤدي إلى ثلاث مفاسد كبيرة:
– المزيد من الارتفاع في نسبة الطلاق.
– هضم حقوق الرجال، وجعل طلاق الشقاق سيفا مسلطا على رقابهم.
– ارتفاع نسبة العزوف عن الزواج، مخافة التبعات.
ومع انخفاض معدل الخصوبة في بلدنا، وارتفاع نسبة الشيخوخة، سيكون لذلك ولغيره مما نبهت على مجانبته للصواب أثر سيء جدا على مستقبل المغرب.
وكل ما أوردناه يدفعنا لوضع السؤال النقدي:
هل المخولون بتعديل مدونة الأسرة ومراجعتها يفكرون بمنطق مدونة الأسرة؟ أم بخلفية مدونة المرأة؟
وهل فعلا يعنيهم -أقصد بعض الجهات والأصوات- تعديل المدونة بما يحقق العدل، أم تحييد الإسلام من المدونة بما يحقق العلمانية والحداثة، والقطع مع شريعة رب العالمين ؟؟!!
ثم أتساءل:
1-إذا كان القانون الأسمى في البلاد وهو الدستور ينص على أن دين الدولة هو الإسلام؛
2- إذا كان عقد الزواج عقد شرعي بكل أركانه وشروطه؛
3- إذا كان المعنيون بالمدونة مسلمين، وإلا فلليهود المغاربة مدونتهم الموافقة لديانتهم؛
4- وإذا كان في شريعتنا أحكام قطعية لا يتطرق إليها احتمال التأويل والتبديل، وأخرى ظنية -وهي الكثيرة- يمكن الاجتهاد فيها، والاجتهاد فيها مشروط أن يكون من أهله، في محله، بدليله، وليس لمن هب ودب؛
إذا كان ذلك كذلك فما بال من يسمون نفسهم بالحداثيين يريدونها عارية عن الإسلام، طليقة متفلتة بلا خطام ولا زمام ؟!!
هل بعنا لهم البلد، واشتروا منا، ونسينا؟!!
أم نحن مجرد أقلية عندهم وبينهم؟!!
سنكون أقلية بالفعل لو لم نقم بواجبنا عاجلا في الدفاع عن هويتنا وشريعتنا وشرعية ملكنا الدينية، وإيقاف المتنطعين المغرضين عند حدهم، قبل عرض المدونة على البرلمان وفوات الأوان.
اللهم إني قد بينت وبلغت، اللهم فاشهد.
آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M