بعض دلالات “آية التنازع” من سياقها في سورة النساء

30 يوليو 2025 15:22

هوية بريس – د.ميمون نكاز

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ خَیۡر وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا﴾ [النساء59].

تتضمن “آية المنازعة” في سياق سورة النساء -أقصد آية وجوب الرد إلى الكتاب والسنة عند التنازع- جملة دلالات:

– الدلالة الأولى: “سيادة الشريعة” في الاجتماع الإسلامي وحاكميتها القضائية الفاصلة العليا في سائر المنازعات {فإن تنازعتم في “شيء” فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء59]، وقد ذكرنا من قبل أن هذه المسألة من أصول الاعتقاد الكلية، لا من فروع الأحكام الفقهية الظنية القابلة لإعادة النظر الاجتهادي فيها…

– الدلالة الثانية: حدوث المنازعة والتنازع بين “المؤمنين- أمر وارد في السياقات التاريخية والاجتماعية والواقعية الموضوعية، ولا يجرد حدوث ذلك المؤمنين المتنازعين من الوصف الإيماني الثابت لهم جميعا، لا يجردهم من ذلك الوصف الاستحقاقي إلا ناقض لأصل الإيمان بيقين، كما هو ظاهر كذلك في آية “احتمال الاقتتال بين المؤمنين” ﴿وَإِن طَاۤئفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُوا۟ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡداهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَاۤءَتۡ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ، إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَة فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الحجرات9-10]، والمنازعة والاقتتال لا يحدثان ولا يجريان إلا عن اختلاف أو تنافر، وحينئذ لا مخارج من ذلك إلا بالاحتكام إلى “المرجعية العليا الحاكمة الفاصلة”، يُستَنَدُ في هذه المرجعية إلى ناظمين: ناظم “النصوص التكليفية والتشريعية المحكمة“، وناظم “النصوص التكليفية والتشريعية المفصلة“، يضطلع ببيانها وتقريرها ونظمها في دساتير ومواثيق وقوانين وتشريعات “حكماء العلم والمعرفة” و”خبراء النظر في الواقع”، في إطار “النظم المؤسسية الشورية”، وفي سياق الأعراف والتقاليد والاختيارات العرفية المرعية، إذ لا مخارج من “المنازعات” إلا بالشورى، بنوعيها: “شورى العلم والمعرفة” و”شورى التنزيل والعمل“…

– الدلالة الثالثة: التحذير من “زعماء الإسلام والإيمان” -أقصد من يزعمون الإسلام والإيمان- الذين يرفضون الاحتكام إلى الشريعة ويقترحون بل يريدون الاحتكام إلى “مرجعيات حاكمة” حكمية أخرى، يقدرونها “أحكم نظرا” ويرونها “أعدل تفصيلا في القيم والأحكام” مما في الشريعة، في “مفصلات القيم والأحكام” خاصة… أقول: مهما تعددت أسس هذه المرجعيات العقدية أو الفلسفية أو المعرفية أو الميثاقية الحقوقية أوالقانونية والقيمية، فقد سماها الوحي الشريف “طاغوتا” حصرا وقصرا وإجمالا، في آية “زعم الإيمان” {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا}، فما “الطاغوت”؟

يكفينا أن نقول -كما قال ابن القيم في “الإعلام”: (طاغوت كل قوم من (أو ما) يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم)، و”الطاغوت” مشتق من “الطغيان”، والطغيان معناه “مجاوزة الحدود”، حدود النظر الشرعي المعقول” و”حدود العمل المقصود المطلوب”، والشرط في ذلك “صحة مرجع النظر” و”سلامة ميزان العمل”، يندرج في هذا المفهوم التحاكم إلى “الأهواء المتنفذة”: “أهواء العقل المجرد”، وأهواء النفس الراغبة المتوثبة”، و”أهواء الأعراف والتقاليد والموروثات الغالبة”، والمثير في الآية الحكيمة الشريفة تحذيرها من آثار هذه “الإرادة الاحتكامية إلى هذه “الطواغيت”، قد أجملتها في عنوان كلي كبير، هو “الإبعاد في الضلال”…

من معضلات النظم السياسية في العالم الإسلامي “تشاكس المرجعيات” و”تصادم السيادات”، في النصوص والمواثيق والعهود الدستورية والقوانين التشريعية، مما يهدد “الوحدة السيادية المرجعية” عند التنازع والاختلاف، ذلك هو الأمر الظاهر في”المنازعات الاستدلالية” و”الخلافات الاحتجاجية” بين الفرقاء المختلفين في قضايا الحقوق والحريات والعدالة والمساواة، من حيث الأنظار التأويلية والتفصيلية لأفراد المسائل والأحكام فيها…

إني أعتبر هذه المعضلة أم المعضلات المنبثقة عنها مما هو من مضارب الأمثال في السجالات والجداليات التي يتشاكس فيها المتشاكسون من المثقفين والإديلوجيين والسياسيين والحقوقيين المدنيين، فالأمة لم تعد “سلما” لمرجعيتها الأساس والأم، بل أمست “مُشاكَسَة” من شركاء دخلاء على طبيعتها وهويتها الذاتية، يشاكسونها في “الوحدة السيادية” لوجودها الحضاري، إنها معضلة الوجود العام للأمة في العصر الحديث، حيث لا يمكن تعليل أغلب القضايا النزاعية وتفسير كثير من الظواهر الخلافية إلا باستحضار هذه “المعضلة الإشكالية”، والوحي الشريف- في سياق “آية التنازع” قد قضى في “فصل خطابه” بالواجب في هذا الشأن:

{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.. وهل يتحرج من ذلك سوى “أتباع الأهواء” “عبدة الطاغوت”على النحو الذي تأولناه وفصلناه…

يتبع بعد حين…

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
19°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة