بلية الاستهلاك والإدمان المقيت
هوية بريس – د.أحمد اللويزة
غالبا ما كان الحديث عن الإدمان يتعلق بالإدمان على المخدرات، فهو أول ما يتبادر إلى الذهن عند إطلاق هذه الكلمة، لكن الإدمان اليوم في عالم الرأسمالية المتوحشة صار يتخذ أشكالا وصورا ومن أشنعها وأبشعها رغم السكوت عنه هو إدمان الاستهلاك، حيث صار الإنسان آلة استهلاكيه بلا تفكير ولا وعي، وكأنه أسير في قبضة عدو لا يحرك ساكنا ولا يقدر على الاعتراض.
لقد أصبح الإنسان اليوم كائنا استهلاكيا بامتياز، من أجل ذلك يحيى ومن أجل ذلك يعيش، ومن أجل ذلك يشقى ويتعب، فلقد أصبح التسوق أو ما يسمى (بالشوبينج ) -عند بعض طبقات المجتمعات- والتباهي بالمقتنيات والمشتريات مرضا فتاكا يسري في البشرية سريان الدم في العروق، ولم يعد الإنسان يقوى على الصبر وضبط النفس وهي تتفنن في التشهي.
فتراه مستسلما لكل أمنيه وشهوة، يشتري ويقتني حتى ما لا حاجه له به، وهذا الحال الذي أوصلته إليه الرأسمالية المقيتة التي تعتبر الإنسان عبدا خاضعا لجبروتها وطغيانها، جعل هذا الإنسان يعيش فاقدا لكرامته كإنسان، يتصرف بلا عقل، ويُقدم بلا روية، ويتصرف بلا أناة، تجده يشتكي الغلاء وارتفاع الأسعار، لكنه لا يستطيع أن يترك الاقتناء، أو يقلل من الاستهلاك، لأنه صار مدمنا لا يقوى على العيش ببساطه، أو يكتفي بما عنده، أو يرضى بتوسط الحال، كل هذا يسهم فيه إعلام متفلت من كل الضوابط الأخلاقية والإنسانية التي ينبغي أن تراعي نفسيات الآخرين ممن يعانون قله ذات اليد، فيتنافسون في النشر ومشاركة الحياة الخاصة المتعلقة بطبيعة الاستهلاك من مأكولات ومشروبات وملبوسات وأثاث وأدوات تقنيه وآلات إلكترونية، وكل ما تلفظه الحضارة المادية اليوم، بما في ذلك الأفكار والتصورات التي لم يعد الإنسان يجد لها مصفاة يصفي به سليمها من سقيمها وسيئها من خيرها.
وأنت ترى الناس يبكون ويشتكون من ارتفاع الأسعار لكنهم في عالم الاستهلاك يزدحمون ويتنافسون، وكل منهم يسعى في الظفر بالحظ الأوفر دون غيره، يشتكون من ارتفاع الأسعار ويرجون انخفاضها لكن المتحكمين في اللاشعور البشري اليوم يدركون هذه الحقيقة، ويعلمون أن الاستهلاك عند البشر وصل درجه الإدمان، وأنهم لن يقدروا على التخلي عن أشياء ولو لم تكن من ضروريات الحياة، فيزيدون في الأسعار مرة بعد أخرى بلا شفقة ولا رحمة، والغريب أن الناس يزيدون في الشكوى وفي نفس الوقت يزيدون في الاستهلاك، حالهم حال المدمنين على المخدرات الذين يفعلون المستحيل من أجل الحصول على لفافة حشيش أو قنينة خمر، ولو أن يتخلوا عما هو أهم في العيش من أكل وشرب وملبس… ومنهم من يضطر للسرقة والنصب، أو يتسولون أحيانا من أجل تحقيق تلك الشهوة المضرة الفتاكة، هذا هو حال الناس اليوم مع الاستهلاك، عاجزون ضعفاء مستسلمون.
وهنا نطرح سؤالا: ما الحل في أن يتخلص الإنسان من هذه البلية، وأن يعالج نفسه من تبعاتها وآثارها النفسية والعقلية والروحية؟ لأن الإنسان وهو يستهلك، حين يعجر عن الوصول إلى درجة أعلى في الاستهلاك وصلها غيره، يصاب بالإحباط ويملأ قلبه الشعور بالنقص، فيتألم ويحزن، فيفقد لذته حتى بما يملك مما لا يملكه غيره، وهنا إذا لم تحضر قيم الإسلام النبيلة التي تربي النفس البشرية على القيم الراقية، مثل القناعة والرضا والحمد والشكر على ما أنعم الله به وأجاد، وعدم احتقار النعم وازدرائها كيف ما كانت، وفي نفس الوقت تطهرها من دنيء القيم التي أوصلت الإنسان إلى هذا الحال من قبيل الشح والجشع والطمع والهلع والحرص على جمع ومراكمة الثروة وتلبية الرغبات والشهوات إسرافا وتبذيرا دون وازع ولا رادع، وفي هذه المعاني يحث النبي صلى الله عليه وسلم على الإقلال من الاستهلاك والاكتفاء بحد الضرورة كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)، وفي اللباس يقول عليه الصلاة والسلام: (كل واشرب، والبس وتصدق، من غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ).
فهذه القيم الإسلامية تجعل من الإنسان شخصية متوازنة منضبطة متحكمة في نوازع النفس وشهواتها التي لا تنقضي، والتي يستغلها مراكمو الثروة الراغبون في التحكم في البشرية والذين ينفقون الملايير في الإشهار الذي يستغل طبيعة النفس الإنسانية التي جبلت على حب الشهوات وقنطرتها والإكثار منها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
فلا حل للبشرية لكي تنعتق وتفك رقبتها من قبضه الرأسمالية البشعة التي لا يهما إلا مراكمة الثروة على حساب القيم والفضائل النبيلة إلا بالتحلي بتعليمات الإسلام وتوجيهات الشريعة الربانية، التي هي أصلح للإنسان في كل مجال، ولمعالجة كل مشاكله كيفما كانت في كل زمان ومكان، وإن بلية الاستهلاك لمن الأمراض الفتاكة التي تعصف بالإنسان في هذه الأزمان، حتى عد عند بعض الأطباء النفسيين مرضا نفسيا قائما على هوس الشراء أو التسوق القهري أو إدمان التسوق أو الشراء القهري، كما ورد في موسوعة ويكيبديا، وما أجمل أن يكون المسلم بالخصوص متجملا بخلق القناعة والرضا وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قد افلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه).