بنكيران: الوزير يدعو إلى الإرجاء والعلمانية باسم العقيدة الأشعرية

31 أكتوبر 2025 18:40

هوية بريس – د.رشيد بن كيران

قال وزير الأوقاف في قبة البرلمان كما يؤكد الشريط أسفله: “أبو الحسن الأشعري لم يشترط العمل في الإيمان، يقول لك: العمل بينك وبين الله تعالى“.

◆ بداية، لست هنا معنيا بالبحث في صحة نسبة هذه العبارة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، فدلائل بطلانها التاريخية والعلمية واضحة لكل من له إلمام بعقيدة الأشاعرة ومتونهم، لكن المهم أن الوزير لم يكن بصدد نقل عبارة عن الإمام الأشعري، بل كان يعبر عن فهمه الخاص لما يتصوره مذهبا أشعريا، أو عما أراد أن يُلبسه للأشعرية من لباس زور وتأويل مخل، أراد به تمرير تصور عقدي جديد ينسجم مع رؤيته لموقع الدين في الحياة العامة. ومن هنا فإن تلك العبارة ينبغي التعامل معها على أنها رأي للوزير أحمد توفيق نفسه، لا للأشعري، وأن تقرأ في سياق الخطاب الذي دأب الوزير على تبنيه منذ سنوات، وهو خطاب يميل إلى حصر الدين في الشعور الفردي والعلاقة الباطنية بين الإنسان وربه.

◆ إن العبارة في ظاهرها بسيطة، لكنها في حقيقتها تنطوي على تبسيط مخل لقضية علمية دقيقة، تُستعمل في مقام التوجيه العام لتسويغ التساهل في العمل الديني، وكأن الإيمان مجرد عاطفة داخلية أو علاقة وجدانية خالصة لا تترجم في السلوك ولا تطالب بالامتثال.

وهذا في جوهره خطر بالغ على الوعي الديني العام، لأنه يحوّل الإيمان من منهج حياة شامل يوجه الفكر والسلوك، إلى تجربة ذاتية منعزلة عن مقتضياتها الواقعية والاجتماعية. والإسلام كما هو واضح في نصوصه المحكمة لا يفصل بين الإيمان والعمل الصالح، بل يجعلهما وجهين لحقيقة واحدة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، آيات كثيرة في هذا الصدد. وقال سبحانه: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾، فالإيمان الذي لا يثمر عملا هو إيمان ناقص أو دعوى بلا برهان.

◆ وإذا تأملنا قول الوزير: “العمل بينك وبين الله” بمعنى أنه لا يحق لأحد أن يحاسبك عليه، وجدنا أنفسنا أمام صيغة إرجائية واضحة، تقرر فصلا مصطنعا بين الإيمان والعمل، وتوحي بأن التقصير في الطاعة أو الوقوع في المعصية لا يدخل في مجال المحاسبة الشرعية. وهذا قلب لمقصد الدين الذي جاء لتقويم السلوك وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أصل عظيم من أصوله، فليس الدين تجربة فردية منقطعة عن محيطها، بل هو التزام ينعكس على حركة الإنسان في نفسه وأسرته ومجتمعه.

◆ إن القول بأن العمل شأن بين العبد وربه فقط، معناه في المآل الاجتماعي والسياسي تحييد المجتمع والدولة عن مراقبة السلوك الديني والأخلاقي، أي نزع الدين من المجال العام وتحويله إلى شأن خاص لا سلطان له على الحياة. وهذا في الحقيقة شكل من أشكال العلمنة العملية المتدينة، حتى وإن لم يصرح بها الوزير هنا، لأنها تؤدي إلى تعطيل وظيفة الدين في توجيه المجتمع وتقويم السلطة. إن هذا التصور يتناقض جذريا مع مبدأ الشريعة التي بنيت على التكافل والتناصح والمراقبة الجماعية، كما قال الله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾. ففريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الضمانة الكبرى لحفظ الدين من جانب العدم الذي هو مقصد من مقاصد الضروريات الخمس، كما قرر الشاطبي وغيره من أئمة المقاصد، وبدونها يصبح الدين معرضا للذوبان في الفردانية المفرطة التي لا ترى في العبادة إلا شعورا داخليا لا شأن للمجتمع به.

◆ ومن ثم، فإن هذه المقولة ليست مجرد رأي عابر، بل هي تعبير عن توجه فكري يسعى إلى إعادة تعريف الإيمان على نحوٍ يفرغه من محتواه الشرعي والتكليفي، ويحوّل الدين إلى حالة وجدانية شخصية لا تتجاوز حدود القلب. إنها صيغة لما يمكن تسميته بالإرجاء المؤسساتي، الذي يُطْمئن العصاة والمقصرين بدل أن يدعوهم للتوبة والعمل الصالح، ويعطل وظيفة العلماء والمربين في التربية والنصح وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم وفق هذا التصور لا يملكون حق المحاسبة ولا النصح في أعمال هي “بين العبد وربه”.

وأما في المآل السياسي، فإن هذا الفهم يبرر عمليا الفصل بين الدين والسياسة؛ لأن السياسة وفق منطقه لا شأن لها بمراقبة الأخلاق العامة أو صيانة قيم المجتمع، فتصبح العبادة مسألة شخصية، ويُختزل الفساد العام إلى خلل إداري لا يمت إلى الدين بصلة.

◆ وهكذا، يتبين أن عبارة الوزير ليست مجرد زلة لسان، بل تمثل اتجاها خطيرا يعيد صياغة العلاقة بين الإيمان والعمل على نحو يضعف الدين في نفوس الناس، ويجرده من سلطته الإصلاحية والاجتماعية. فالإيمان في الإسلام ليس شعورا منعزلا عن السلوك، ولا علاقة سرية مغلقة بين العبد وربه، بل هو التزام شامل ينعكس في القول والعمل والإصلاح، يربط الأرض بالسماء، والحياة بالعقيدة، والفرد بالأمة.

√ ومن الخطأ البالغ أن يقال إن “العمل بينك وبين الله”، لأن العمل في الإسلام بين العبد وبين ربه أولا، ثم بين العبد وبين أمته ومجتمعه ثانيا، لأنه لبنة في بناء الأمة، ومسؤولية جماعية لحفظ الدين وإحياء رسالته.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
8°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة