بنكيران يكتب: حكم الصلاة على الكرسي

هوية بريس – د.رشيد بن كيران
1- صلاة أهل الأعذار:
تعد الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام بعد ركن الشهادتين، وهي فريضة على كل مسلم ومسلمة إذا بلغا سن التكليف. ولم يأذن الشرع لأي شخص بتركها، حتى في الظروف الخاصة، إلا أنه رخص للمريض في أدائها حسب استطاعته. فعن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضى الله عنه- قَالَ: كَانَتْ بِى بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلاَةِ فَقَالَ «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (رواه البخاري وغيره).
يعد هذا الحديث أصلا في صلاة أهل الأعذار، حيث رخص الشارع للمصلي في ترك ركن من أركان الصلاة وهو القيام في حالة العجز عنه، وأمره بأدائها قاعدا أولا، ثم على جنب إذا تعذر عليه ذلك.
▪︎ قوله صلى الله عليه وسلم: “صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع” أي: إذا لم تستطع القيام، والقيام في الصلاة يشمل تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة وسورة أو آيات منها، ثم الانتقال إلى الركوع، ثم رفع الرأس منه قائلاً: “سمع الله لمن حمده” عند اعتداله من الركوع. فإذا عجز المصلي عن القيام بسبب مرض أو عذر، جاز له أداء الصلاة في حالة القعود، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويقرأ الفاتحة، ثم يركع خافضا رأسه قليلا، ويرتفع منه وهو في هيئة قعود.
وبذلك، يظل المصلي ملتزما بأركان الصلاة بما يتناسب مع قدرته، وهو ما يتوافق مع رخصة الشرع في التخفيف على أصحاب الأعذار.
2- القعود لغة:
تمدنا كتب المعاجم أن مادة (قعد) لغة تدل على نقيض القيام، تقول قعَدَ يَقْعُدُ قُعوداً ومَقْعَداً ، أي جلس على مقعدته بانتِقَاله مِن عُلْوٍ إلَى سُفْلٍ، وللقعود هيئات متنوعة منها:
التربع: وهو لمن جلس على أليتيه، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه.
الافتراش: وهو لمن جلس مفترشا رجليه؛ وهي الهيئة المعروفة عند جلوس التشهد للصلاة.
الاحتباء: وهو لمن قَعَد على أَلْيَتَيه وألْصقَ فخذيه ببطنه واحْتَبى بيديه يضعهما على ساقَيه.
التورك: وهو لمن قعد متكئا على أحد وركيه، أو هو لمن جلس على مقعدته مع إخراج القدم اليسرى إلى جانب اليمنى.
الجلوس على الدابة أو المنبر أو الكرسي؛ يقال قعد على الدابة وقعد على المنبر وعلى الكرسي.
ومعظم هذه الصور وهيئات القعود، وردت في أحاديث نبوية وآثار صحيحة، وتسمى لغة قعودا، وإذا كان حديث عمران بن حصين جاء فيه لفظ القعود مطلقا فإنه ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفريضة والنافلة متربعا، وصلى الوتر وهو قاعد على راحلته.
3- لفظ القعود بين الإجمال والإطلاق:
دل صنيع العلماء على اختلاف مذاهبهم الفقهية على أن لفظ القعود الوارد في حديث عمران بن حصين هو لفظ مطلق يفيد حقيقة لغوية شائعة في مسمى القعود دون تقييد. بمعنى آخر، يشمل جميع أفراده أو ما ينطبق عليه لغة. ولهذا تنوعت لديهم صور القعود الجائزة في الصلاة، من بينها: التربع، والاحتباء، والتورك، والافتراش. ويمكن أن نقسم هذه الصور إلى قسمين كما قسمه الشافعية؛ قعود العبادة كقعود هيئة التشهد افتراشا أو توركا، وقعود العادة تربعا أو احتباء.
◆ أقوال العلماء:
▪︎ قال أبو بكر ابن العربي المالكي: “والجلوس في الصلاة ليست له صفة مخصوصة لا يجزئ إلا عليه، بل يجزئ على كل صفة من الاحتباء والتربع والتورك وغيرها”. المسالك في شرح موطأ مالك (3/ 53).
▪︎ قال السرخسي الحنفي: والمصلى قاعدا تطوعا أو فريضة بعذر يتربع، ويقعد كيف شاء من غير كراهة، إن شاء محتبيا وإن شاء متربعا؛ لأنه لما جاز له ترك أصل القيام فترك صفة القعود أولى”. المبسوط للسرخسي (1/ 385). وفي بدائع الصنائع: “رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْعُدُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، إنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَرَبِّعًا، وَإِنْ شَاءَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ”.
▪︎ قال ابن حجر العسقلاني الشافعي: “(فائدة): لم يبين كيفية القعود، فيؤخذ من إطلاقه عليه الصلاة والسلام جوازه على أي صفة شاء المصلي…، وقد اختلف في الأفضل؛ فعن الأئمة الثلاثة يصلي متربعا، وقيل يجلس مفترشا وهو موافق لقول الشافعي في مختصر المزني وصححه الرافعي ومن تبعه، وقيل متوركا وفي كل منها أحاديث”. «فتح الباري»
4- الحكمة من عدم تقييد هيئة “القعود” لصلاة أهل الأعذار:
إذا كانت الحكمة من تشريع الرخص تكمن في التخفيف عن العباد عند وجود الأعذار، فإن مقتضى هذه الحكمة يتطلب تخفيف القيود أو الشروط التي قد تضيق على الناس وتفرغ الرخصة من هدفها الأساسي. هذا يتأكد بشكل قوي إذا جاءت الرخصة مطلقة دون تقييد أو عامة دون تخصيص. وفي إطلاق الشرع رخصة القعود في الصلاة عند وجود العذر دون قيد، دليل على أن الشارع يهدف إلى توسيع نطاق هذه الرخصة لتشمل جميع أهل الأعذار. وبالتالي، يمكن لكل شخص أن يتبع ما يناسب حالته طالما كان ملتزما بالصور الممكنة للقعود لغة. وقد أكد هذا الفهم ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما صلى لعذر متربعا، وهي هيئة من هيئات قعود العادة. كما أن بعض الصحابة، مثل سعيد بن جبير، صلى محتبيا، وهو أيضا من هيئات قعود العادة. لذلك، لا يوجد مانع شرعي من أن يكون القعود على هيئات أخرى من هيئات العادة، مثل الجلوس على حَجرة أو على وسادة أو على كرسي، إذا كان ذلك يناسب حال العذر لدى المصلي.
5- أحوال الصلاة على الكرسي: منها الجائز ومنها غير الجائز
إذا كانت الصلاة على الكرسي تدخل في عموم الإطلاق البدلي للفظ “القعود” في حديث عمران بن حصين، فإن هناك حالات تكون فيها الصلاة على الكرسي غير جائزة. ذلك يحدث عندما يكون الجلوس على الكرسي يمنع المصلي من السجود وهو قادر عليه. بما أن السجود ركن من أركان الصلاة، فإنه لا يسقط عمن سقط عنه ركن القيام إذا كان قادرا عليه. لذلك، إذا كان المصلي لا يستطيع القيام ولكنه يستطيع السجود، فإنه يشرع له أن يصلي قاعدا، ولكن على هيئة قعود تسمح له بالسجود مثل التربع أو الافتراش أو الاحتباء، مع العلم أن التربع هو الأفضل حسب مذهب الجمهور.
أما إذا كان المصلي لا يستطيع القيام ولا السجود، ويستطيع أن يصلي جالسا على الكرسي فله ذلك، ما دام يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: “صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا“. ولا يوجد دليل شرعي يمنع هذه الهيئة، حيث أنها تندرج ضمن هيئات القعود في الصلاة التي يشملها كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام.
6- تنبيه وتحذير:
من المهم جدا التنبه إلى أن القعود على الكرسي في الصلاة لأهل الأعذار يجب أن يكون في حال عدم القدرة على القيام والسجود معا، وأنه لا يجوز أن يكون سبب الجلوس على الكرسي هو التراخي أو عدم الجدية في أداء الصلاة أو اعتقاد أن السجود يسقط عمن سقط عنه ركن القيام.