بيت مُقام على شفا جرف هارٍ إلا أن يتغمد الله أهله برحمة وهدى ..
هوية بريس – هدى عبد الرحمن النمر
من كبرى مداخل الخلل التربوي التي تسبب الفجوة بين الناشئ المسلم ونشوئه السويّ والمنهجي والراسخ في الإسلام، أن الوالدين يهدران سنوات العمر التي تسبق سن التكليف في تعويد الناشئ على عادات ومفاهيم وطبائع غالبها مخالف ومعاكس لما سيقتضيه التكليف لاحقًا.
ولا خلاف في أن عصر اليوم حافل بالتحديات التربوية ومختلف أشكال المغريات والانحرافات التي تجعل التربية أشق والتركيز أثناءها أوجب والمصابرة فيها أدعى؛ لكنها تظل على لغطها بيادق يمكن ردعها إذا كان حصن الأسرة حصينًا بوالدين واعيين راعيين داعيين. أما عندما يكون الوالدان هما مبدأ التحدي التربوي فينشّئان الناشئ عمدًا أو يتركانه هملًا في بيئة معاكسة بل ومعاندة بكل تفاصيلها لما سيجب من تكاليف لاحقًا، فهذا بيت مُقام على شفا جرف هارٍ إلا أن يتغمد الله أهله برحمة وهدى.
خذ – مثلًا – الأم التي تعود بناتها – لأنهن بعد “صغيرات” لا فرق ولا لزوم للحشمة معهن – على ارتداء خِرَق تتعمد الكشف عما تحتها وما بينها، والأب الذي يشهد ذلك عن طيب نفس أو عدم مبالاة بدعوى أنه لا “يتدخل” في أزياء النساء – إن صحّ أن تسمى تلك الخِرَق زيًّا – ، وتتعود البنت منذ الصغر أن تتبرج وتتبهرج وتتغنج خارج البيت، وتتبذل وتتبهدل وتغلظ داخله، وينشأ في حسّها بالدلائل والإيماءات قبل التصريح والكلمات أن الأنوثة تعني إظهار مفاتن البدن للغير، وتنشأ في نفسها عقيدة استمداد قيمة ذاتها من نظرات الإعجاب والمديح والثناء بصفة عامة، وما يتعلق بالجمال البدني بصفة ومعايير خاصة، وبالتالي تنشأ في نفسها عقدة الحاجة لتسقّط تلك الأمارات من الغريب قبل القريب، فتقع ظواهر ضغط الأقران وكراهة الذات والشراهة المرضية … إلخ.
مثل هذه النفس التي تعرضت لكل عوامل التعرية تلك، أنى تكون مهيأة لامتثال تكليف الله تعالى بالتحجب والستر الظاهري حين تبلغ سن التكليف، ناهيك عن إدراك العمق الباطن والسمت الكامن وراءه، وقد أُشرِبَت مفاهيم وتطبيقات التكشف والتعري ظاهرًا وباطنًا؟!
إن أغلب النشء اليوم يصلون سن التكليف وقد تَلَفَت نفوسهم وتحوّرت فطرتهم بحيث لا يشق عليها التكليف فحسب بل تبغضه صراحة وتتمرد عليه، أو تشعر حقيقة بأنها حاملة لبراءة من التكليف فلا يجب عليها إسلام أو الإسلام الذي تعرفه لا يوجب عليها شيئًا! وأغلب آباء وأمهات اليوم تفانيهم الأبوي والأمومي غير مسدد ولا متصل بأمانة التكليف اتصالًا واضح الغايات ومتدرج المنهج وجادّ المسؤولية، فإما أنهما غافلان عن مقتضيات إسلامهما في حق أبنائهما ومعنى تربية المسلم وخطر تلك الأمانة، وإما أن في نفسيهما ندّية تجرِّئهما على التشريع فوق تشريع الله تبارك وتعالى، فالتزام التكليف لا علاقة له بتحقق شروط التكليف الشرعية بل باقتناع الفرد وقتما يتبدى له أن يُسلِم حقًّا كما أسلم اسمًا!
وخلاصة غاية التربية الحقة وأمانة الوالدية الصالحة تكمن في ركنين:
– الأول: كفالة الناشئ بمختلِف صور الرعاية البدنية والغذائية والمالية؛
– والثاني: تهيئة الناشئ لحمل تكليف ربه، وتعبيد (أي تمهيد) السبيل المواتي لينضج في تعبيد نفسه لله تعالى حين يبلغ سن التكليف والمسؤولية عن نفسه.
وقد خرّجت الرخاوة التربوية أجيالًا من العقد النفسية والتشوهّات الفكرية المتحركة، وفي المقابل خرّج التشدد التربوي أجيالًا غليظة الفهم والقلب.
والوسط بينهما هو الجدية التربوية التي تعني التعليم عن علم، والتمثيل بالقدوة، والتدرج بصبر ورسوخ، والجمع بين اللين والحزم كل في موضعه، وصدق الاستعانة بالله تعالى في مباركة الذرية وتعبيدها له على ما يحب ويرضى.
وإذا كانت البنوّة الصالحة شكرًا للوالدين على برّهما، فالوالدية الصالحة شكرٌ لله تعالى على هبته، ولذلك جعلها الله تعالى من العمل الذي لا ينقطع أثره لصاحبه.