بينَ الوزير القِفْطي والأديب ياقوت الحموي
هوية بريس – ربيع السملالي
من الملاحظات التي عنّ لي تسجيلها بعد الانتهاء من قراءة الكتاب المفيد الضّخم (إنباه الرّواة على أنباه النّحاة) للوزير جمال الدين علي بن يوسف القِفْطي المتوفى سنة 624هـ، تطاوله ولمزه واحتقاره للأديب الكُتبي الكبير والكاتب المتمكّن صاحب التّصانيف النّافعة ياقوت بن عبدالله الحَمَوي الرّومي، الذي كان عائشًا في زمانه، وقد التقاه وزاره في بيته أو قصره حين كان ياقوت يتعيّش من تجارة الكتب ونسخها، ويضرب في الأرض على غير هدى لا يلقي عصا الترحال إلا لضرورة ليس له منها بدّ.. وكما يقال فالمعاصرة حجاب وهُجنة، وكلام الأقران بعضهم في بعض لا يؤخذ به ولا يقام له في ميزان النّقد سوقًا.. والغريب أنّ ياقوتًا الحموي ذكر القِفْطي في كتبه بكل خير وحَمدَ سيرَته وأسرف وأطنب وأمعن في ذِكر أخباره ومناقبه لحدّ السّآمة كما سنعرض له بعد قليل، لكن الوزير -غفر الله لنا وله- لم يكن منصفًا ولا عادلا كما كان مع غيره ممن هو أقل شأنا ومكانة من ياقوت الذي سار بذكر مؤلّفاته الرّكبان.
ودونكَ بعض الأمثلة في احتقاره له فبالمثال يتّضح المقال:
في ج4 ص81: ولما كبر ياقوت هذا. (تأمّل كلمة هذا)… وحصّل بالمطالعة فوائد اقتضاها فهمُه، على عُسر كان في فهمه، ومكابرة كانت في خُلُقه… وربّما جعلَ بعض تجارته كتبًا، وكان ذلك سببَ اجتماعي به، فإنّه قصَدني بالكتب في حلب لمّا شاع غرامي بها بين المُتّجرين فيها، فكان اجتماعي به في شهور سنة تسع وستمائة… ورأيت ما جلبه من الكتب على قلّتها، فلم يكن فيها ما أرغبُ إليه سوى كتابين ابتعتهما منه. وتأمّلتُه في منظره ومخبره، فتوسّمتُ فيه أمورًا لم يَخُنِّ حدسي فيها، وعلمتُ أنّه لا يصلح للعِشرة… ولما وصلَ دخلَ عليَّ في حالةٍ يسوءُ منظرها، ووصفَ من أمره أمورًا لا يسرّ مخبرها. وقال: قد ألقيتُ عصاي ببابك، وخيّم أملي بجانب جنابك، فقلتُ في جوابه: أقاسمك العيش [هذه اللّفظة يأتي الحديث عنها في آخر المقالة]، وسألت الله أن يرزقني الثباتَ على خُلُقه لا الطّيش، فإنّ أخلاقَه خَلِقَة، ومخاريقَه منخرقة، ولا أقع من دينه من حيثُ القاذورات، وإنّما من حيثُ تصرّفه الموجب له التّفرّق والشّتات، فأقام مشاركًا في المعلوم [عبارة غامضة سنعرض لها في الأخير]، باذلا له كتبَ العلوم، فلفّقَ منها مجموعات لم يكملها، ونسخ وباع في عدّة سنين أقامها عندي، محمول الكُلفة، بحكمة اقتضاها حاله.. (تأمّل أخي القارئ المَنّ والأذى). نعوذ بالله!
ويقول: وإنّما حملني على ذِكره في هذا المُصنّف، لأنّه لَفّقَ مما استعارَ منّي كتابيْن: أحدهما في (الرّد على ابن جنّي) عند كلامه في الهمزة والألف من كتاب (سرّ الصّناعة) فلم يأت فيه بشيء، وصنّف كتابًا في (أوزان الأسماء والأفعال الحاضرة لكلام العرب)، فخلط الغثّ بالثّمين، وقرَنَ الفروع بالأصول، غير فارق في التّبيين، لقلّة أنَسَتِه بالعربية وأصولها، وعاتبته فيهما فما رجع، وعرّفته مواضعَ الخطأ ومقاصده فما ارعوى ولا سمع، وإذا عُزيت بعده إليه، كانت عارًا عليه.
قال محقّق الكتاب أبو الفضل إبراهيم معلّقا على ظلم القِفْطي: ومن العجب أن القفطي لم يذكر (معجم الأدباء)، مع أنّ فيه ترجمة كبيرة له، نوّه فيها بعلمه وأدبه وفضله، وأورد فيها الكثير من شعره ورسائله، وعليها المعوّل في التّعريف به!
ومن العجب أيضا أنّ القفطي لم يذكر اسم كتاب (معجم البلدان)، على حين أنّه أهداه إليه !
قال ربيع: وإليك ما قاله في الإهداء: كما في مقدّمة كتابه (معجم البلدان ج1 ص14): ثمّ أهديتُ هذه النّسخة بخَطّي إلى خزانة مولانا الصّاحب الكبير، العالِم الجليل الخَطِير، ذي الفَضْلِ البارع، والإفضالِ الشّائع، والمَحْتِدِ الأصيل، والمجد الأثيل، والعِزّة القَعْسَاء، والرّتبة الشّماء، الفائز من المكارم بالقِدح المُعلّى، المُتقلِّد من المكارم بالصّارم المُحلّى، إمام الفُضلاء، وسيّد الوزراء، السّيد الأجلّ الأعظم، القاضي جمال الدين الأكرم، أبي الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشَّيباني ثمّ التّيمي، حرسَ الله مجدَه وأسبغ ظِلّه وأهلك نِدَّه ونصر جُندَه وهزم ضدّه، إذ كنتُ منذ وُجِدتُ في حَلٍّ وتَرحال، ومبارزة للزمان ونزال، أسأل منه سِلْمًا ولا يزيدُني إلا هَضْمًا.
فلمّا قَضَتْ نفسي من السّير ما قَضَت…على ما أبلت من شدّة وليَان
بعد طول مكابدة حُرفة الحِرفة وانتظار تبلُّج ظلام الحَظّ يوما من سُدفة:
عُلّقتُ بحبلٍ من حبال بن يوسف….أمنتُ به من طارق الحدثان
فردّ عنّي صرفَ الدّهر والمِحَن، ورفّهَ خاطري عن معاندة الزّمن، لمّا:
تغطّيتُ عن دهري بظلّ جناحه…فعيني ترى دهري، وليسَ يراني
فأصبحتُ من كَنَفِه في حرز حريز، ومن إحسانه وتكرّمه في موطن عزيز:
فلو تسأل الأيامُ الأيامَ عندي لما دَرَتْ…وأين مكاني ما عرفتم مكاني
إذ كان، أدام الله علوّه، علَم العلم في زماننا، وعين أعيان أهل العصر وأواننا، وأعدتُ إليه ما استفدته منه، وروى عنّي ما رويته عنه، فأحسن الله عنّا جزاءه، وأدام عزّه وعلاءه، بمحمد وآله الكرام.
ويغرقه مدحًا وثناءً في كتابه (معجم الأدباء ج5 ص2024) بقوله: أدامَ الله عُلوه، أطال الله بقاءه، أدام الله تمكينه، أدام الله إمتاعنا بك، أدام الله علاه… وقد ذكر أخباره في خمس عشرة صفحة، ولا أعرف على حسب اطّلاعي من ترجم له بهذا الإسهاب وهذا التّطويل كما فعل ياقوت، فالذّهبي مثلا في (سير أعلام النبلاء ج23 ص227) ترجم له في خمسة أسطر. فتأمّل!
وقد ذكره في معجم البلدان أيضا ج 4 ص 383: ونوّه به وبأبيه وإخوانه قائلا: وكلّهم كُتّاب علماء فُضلاء لهم تصانيف وأشعار وآداب، وذكاء وفِطنة وفضل غزير.
فانظر الفرق بين أدب الوزير والأديب..
قبل أن أنتهي من هذه الملاحظات امتدّت يدي إلى آخر مجلّد من معجم الأدباء بعدما تذكّرت أنّ هناك ترجمة وافية بطريقة تحليلية أكاديمية للدّكتور المحقّق إحسان عباس، كنتُ قرأتها من سنتين، كتبها عن ياقوت الحموي وأنصفه فيها، وردّ على القِفْطي بُهتانه وظلمه للرّجل حسدًا وبغيًا، جلستُ أقرأها بتأمّل لمدّة ساعتين إذ إنّها طويلة، وسجلت بعضا من كلام الدّكتور إحسان لتزدان به هذه المقالة التي أردنا من خلالها الانتصار للأديب الكبير ياقوت الحموي وتناقض أو كِبر السيد الوزير القفطي.
فمن الأمور التي ذكرها القِفطي عن ياقوت أنه كان يطيل لسانه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه متأثرا في ذلك بالخوارج، فردّ عليه الدكتور إحسان بقوله في ج7 ص2891: وليسَ في مؤلّفاتِ يا قوت ما يدلّ على انحرافٍ عن عليّ، وقد ترجم له في معجم الأدباء لأنّه يعدّه واضع النّحو أو المُوحي به إلى أبي الأسود الدؤلي.
وقال قبل ذلك في ص2888: وقد تجاهلَ القفطي أمرَ تحصيل ياقوت علميًا فزعم أنّه قرأ شيئا يسيرًا من النّحو واللّغة، وأنّه حصّل بالمُطالعة فوائد اقتضاها فهمه العَسِر، وبخس الرّجلَ حقّه ولم يُنصفه، وكأنّ القفطي يريد أن يقول إنّ ياقوتًا لم يكن له شيوخ، وإنّه كان في ثقافته عالةً على الصُّحُفِ وحدَها، وإنّ هذه الصّحف لم تعطه كُلَّ ما فيها لعسر في فهمه، فطعن في مستوى ثقافته وقلل من شأنه، وغمزه في قدرته على الإفادة مما يقرأ.
ويتساءلُ في ص2899: لماذا أغفل القاضي (القفطي) ذكر (معجم البلدان) و(ومعجم الأدباء) وغيرهما من مؤلّفات ياقوت؟ ألأنّ كتابه (إنباه الرّواة) مقصور على النّحاة ومؤلّفاتهم في النّحو واللّغة؟ ولكن عند الاختبار يبدو أنّ هذا شيء واهٍ لا ثبات له، فإنّه حينَ ترجم لعلي بن الحسين الأصفهاني ذكر كتابه (الأغاني) وكتبه الأخرى التي لا تربطها علاقة بالنحو واللغة. إننا إذا أحسنا الظّن بالقفطي وبرّأناه من مشاعر الحسد والكراهية قلنا إنّ ترجمة ياقوت عنده ناقصة.
قال ربيع: هذا من الإسراف في حسن الظّن من الدكتور إحسان، وإلا فكلام القفطي شاهد عليه أنه أغفل الكتابين الشهيرين لحسد وكراهية للرجل.
أما قول القفطي كما مرّ بنا: (أقاسمك العيش)، فهي كما يقول إحسان عبارة غامضة إذ لا ندري ما معنى مقاسمة العيش بدقّة، وقريبٌ منها في الغموض قول القفطي بعد ذلك: (فأقام مشاركًا في المعلوم)، وإذا صدّقنا القفطي قلنا لعلّه قدّم لياقوت بعض مال يعينه على شراء طعامه، وأباح له استعمال مكتبته فنسخ وباع، ولفّق من تلك الكتب مجموعات لم يُكملها.
فقد كان الرّجل في نظره عسِر الفهم، وكان في خلقه مكابرة. قال إحسان: (أيّ مكابرة تبرزُ من أول لقاء بين بائع كتب يرجو نفاق سلعته عند وزير رفيع المكانة كالقفطي؟) وفي أوّل لقاء بين الرّجلين تأمّل القفطيُّ هذا الرّومي فتوسّم فيه أمورًا صَدَقَ حدسه فيها إذ علم أنّه لا يصلح للعِشرة. تُرى ما هي تلك الأمور التي توسّمها فيه؟ وعندما احتاج ياقوت إلى من يؤويه ويعطف على حاله كان القفطي يرى في خلقه الطّيشَ، ويدرك من أخلاقه خَلِقَة، ومخاريقه منخرقة، ويجد في دينه قاذورات، وتصرّفا في سلوكه يوجب له الشّتات (أي طرده من حمى الوزير الكبير، لو أمن ذلك الوزير النقد الاجتماعي). وقد استطاع الوزير أن يُخفيَ مشاعرَه الحقيقية تُجاه ياقوت…
ويقول: والقفطي لا يحبذ أن ينزل إلى مستوى تاجر كتب، لذلك فلا تجري كلمة (الصّاحب) على طرف لسانه أو على سنّ قلمه، بينما نجد كمال الدين ابن العديم يقول: (وذكر صاحبُنا ياقوت.. ونقلت من خط صديقنا… وقرأت بخطّ صديقنا الفاضل). كما في بُغية الطّلب. ويقابلُ هذا عند القاضي الأكرم قوله: (ذكر لي ياقوت الرومي الناسخ، أخبرني ياقوت واسمه ياقوت الحموي مولى عسكر الحموي التاجر، وقال لي ياقوت مولى عسكر الحموي).
وقد توفي ياقوت وهو لا يدرك شيئا مما كان يُسِرّه القاضي الأكرم نحوه من كراهية وضغن واحتقار، ولا يعرف اللّغة الاستعلائية التي يستعملها القاضي كلّما ذكره أو تذكّره. وكان ذلك من رحمة الله به.
ودامت لكم المسرات.