بين البوح والشكوى مأساة أجيال ونكوص أعقاب
هوية بريس – محمد بوقنطار
بين يدي هذه السطور شكوى إلى الخالق وبوح إلى المخلوق مفادهما طرح السؤال المحيل على تفكيك ماهية الوجهة وبوصلة الصوب فإلى أين المسير يا أمة الوسط؟
ذلك أن النكوص صار سعيا إلى الأمام، والردة تلبست بثوب الإيمان، والشرك صار من تجليات الإحسان، والركون إلى الظلم وُسم بكونه عين العدل ومطلق الاتزان، والذل والهوان تدثرا بدثار العزة والعنفوان، والإتراف صارت له حظوظ وغانم من كل وجهة وفي كل مكان، والمهزوم المريض أصبح يجود بالعفو في غير مقدرة على الغالب القريب من الحسبان، وأجيال ذوات العدد طمرها طوفان الرذيلة، ومترفون زُجَّ بهم إلى الواجهة حتى صاروا قدوة وسيرة تهافتت تحت أقدامها نواصي الشباب، وتخلف الصالحون عن ثغور الإصلاح حتى صاروا ذيلا في قهقرة وإغراب، بل صفق الكثير ممن كنا نعدّه منهم من الأخيار للباطل وسوّغوا له بتحليل الحرام…
بين يدي هذا البوح يأس يراودني وتهجم علي خواطره في ترادف وتكرار، فيردها الوجدان بما صح عن سيد ولد عدنان محمد بن عبد الله إذ قال عليه الصلاة والسلام “من قال هلك الناس فهو أهلكهم”.
ولربما خرج هذا البوح وكان في عجلة من أمره واجدا عزاء خروجه في وطأة فجور جامح وفشل ذريع كالح، فلم يعد هذا الفجور في وجوده وتغوّل كيانه ومنظومته المترفة قاصرا في رؤيته وإبصاره على أولي البصائر والنهى، وإنّما تواطأت أسباب مع مسمّيات وذوات فجلّته لعامة الناس وأغمارهم.
وهل يستطيع كائن من كان أن ينكر أن ها هنا ثمة مأساة بعطف معاناة استوعب ريحها العباد والبلاد، اللهم فئة من الناس ممن لا خلاق لهم يصوِّرون هذا التسفل والوقيعة بكونها تقدما وتمدنا وتطورا وتحضرا، وقد انقلبت عندهم موازين التصوّر، وانتكست في دواخلهم الصِبغ والفطر والعواطف…
وجدير بالذكر التنبيه على نقطة مفادها أن الباعث والدافع لفتح باب التشكي والبوح لم يكن ولا كان هو وجود هذا النكوص وهذه الرِّدة وما سيق معها من معطوفات وشواكل فجور أخلاقي، فإن هذا ومثله مما تقتضيه سنن التدافع الكونية من جهة والإرادات الشرعية من جهة ثانية، وتلك ولا شك سيرة الحق مع الباطل منذ أن أهبط آدم إلى دنيا الابتلاء وإلى يوم الناس هذا، وإنّما المنكر من هذا وملمح العيب فيه أن تسمى الموبقات بغير مقدوح مسمياتها، وأن تتزيّن السيئات بزينة المعروف، وأن يضفى عليها طابع الرسمية، وأن يصير لذويها ومقارفيها المكانة والحظوة والمساحة الشاسعة من الاكتساح والغلبة والظهور، وأن يتغذى هذا الظهور الطافح ومسارب قنواته ووسائله من سيل الإنفاق المالي الذي يشاكل فيه الدرهم العام الدرهم الخاص، وأن يقع هذا السطو في جو قد ضرب فيه العلماء والدعاة صفحا يخاصم ويعادي كل نقد ونقض في منافاة ومجافاة لما تمليه عليهم أمانة التبليغ الكاملة وغير المجتزأة، أي تلك التي يصاحب فيها الأمر بالمعروف النهي عن المنكر بالمناصفة أو الرجحان حسب ما تقتضيه مناطات جلب المصالح ودرء المفاسد من مقاصد إنسانية جليلة، أي تلك التي يواجه فيها العلماء والدعاة والمصلحون الناس بخطاب يوازن بين الترغيب والترهيب الذي صار في عرف المناهج الدعوية من ملامح الغلو والتطرف والجنوح إلى الإفراط ومجانبة قواعد اللين والرفق، مع أن الذي أمر بوصل الصف في الصلاة وأثاب عليه، نهى عن قطعه وأوزر عليه بقوله صلى الله عليه وسلم “ومن قطع صفا قطعه الله”، ولعلك من باب التقريب بالمثال وسوقه لا تذكر أن هذه العبارة بقي لها عين بعد أثر على أفمام الأئمة مع المأمومين من مريدي الصلوات الخمس، وهو مثال له وزنه في الباب إذا أعملنا قياس الأولى في هذا الجانب في دائرة الذوق الذي يحكي قصة هذا اللسان التعبدي الطافح بمكاييل الصبر الذي خالطه الذل، والمرابطة التي تلبست بزي الوهن والهوان، وبيعت على مشارف بنات شفاهها حظوظ الآخرة الدائمة بأوهام وبقيعة سراب الدنيا المفلسة الهائمة.
إن من مساوئ انقلاب الموازين التصورية إدمان أسباب الهزيمة ثم الحرص كل الحرص على ترقب نتائجها واستقبالها بالاستبشار الذي يعدها ويصنفها في سلم الأولويات بكونها خطوات جريئة وحركة حضارية مطلوبة لها نتائجها وقيمتها الإضافية، يجب العض على عرى قيّمها بنواجذ الحرص، كما يجب الاعتداد بها في محاكاتنا ومشينا الطويل وهيامنا فتنة بمدنية الرجل الأبيض وحداثته الضاربة في عمق التفوق والقوة المادية والمكانة العلمية والمعرفية المغذية لمشاريع الاستئصال والغصب، والرائدة في مجالها ذلك، المسكونة بهاجس الهجوم والاعتداء.
وقد علمتنا الحياة عبر وسيط تجاربها أنه ليس ثمة ما يميِّز أي شكوى من أي شيء، أو بوح نواجه به أي شيء، ما دامت حركة الفك تنطلق من طبيعة الواقع متلبسة بظرفه العام، بل تجد شكوانا وبوحنا محكومين بوصف الحال وسبل الحياة وصفا ذوقيا لا يكاد يخطئ، بحيث تطرد فيه العبارة تمسكا بوضوح الحقيقة، التي يشط وجودها عن مبهم التلميح وكذب الإشارة، سيما وأن الحصار الأخلاقي يمارس إحراقه النفسي على شريحة عيّنات بشرية من بني جلدتنا أفقية الكم عمودية الكيف، لا تكاد تستثني أحدا إلا ما استثني بانقطاعٍ رحمةً من ربك وما كان ربك سبحانه وتعالى نسيا.
وليس مربط الفرس ها هنا، أي ليس العبرة في إتقان وصف جوانب البوح وإخراج مضمون الشكوى في قالب يشد الناس إليه، فتلك صنعة الحكواتي أو الحاوي التي بات يتقنها الكل، أو يكاد يعزف لحنها المنغوم الجل، وإنما المقصود المقصود التنبيه إليها بلطف، وبعد هذا تجاوز مرحلة التخبير إلى مرتبة تشخيص الأدواء نشدانا لمقصود مدارسة الحلول الناجعة والاشتغال بها والدخول في محاضنها الابتلائية دينا ودعوة وعلما ومعرفة، حتى تخرج الأمة أو ذلك “الرجل المريض” من مرضه العضال، ومن قَدَرَة عنق الزجاجة التي زُج فيها جيد أجيال وأُغرقت فيها نواصيهم وتمحلت فيها قلوبهم وزاغت لأجلها أبصارهم، أجيال سيذكرها التاريخ يوما بكونها شكلت فراغا قاتلا وجرحا غائرا في جسد أمة الوسط، وربما تساءلت أجيال التمكين المستقبلية عن أسباب ذلك الانحطاط والتسفل وما وصلت إليه حياة المسلمين من أنعامية بل كانت أضل من الأنعام على وفق الاستدراك الرباني فيما جاء من حق رباني متجرد في الذين كفروا…
ولا شك أن الكثير من الاستفهامات التي ستتناسل في ثقل ومكرهة على تلك الأجيال القادمة يومها، تلك الأجيال التي أوكل الله لها رد بساط التمكين ومقام الأعلون إلى الأمة الموصولة بالله، وهي في وجهة المسير إلى الجواب والاقتناع بهذه الحقيقة المرّة، والأكيد أنها لن تجد جوابا غير ذلك الذي يشرح لها كيف جعلنا الكتاب المنزل ظهريا، أقمنا حروفها وضيعنا معانيه وأسقطنا تدبره من ضرورات تعبدنا، وكيف انقطعت صلتنا بربنا وكادت تلامس درجة الصفر، وكيف جعلنا الشرك توحيدا والبدعة سنة، وكيف جعلنا الخيانة أمانة والكذب صدقا، وكيف فضلنا الذي هو أدنى عن الذي هو خير، وكيف تبايعنا بالعينة ورضينا بالزرع وانتهكنا حرمة الضرع وكيف وكيف …ولم نعد لديننا تطبيقا لوصية نبينا صلى الله عليه وسلم وعادوا هم إليه فكانوا الأعلون بإذن الله، بينما كنا أسفل سافلين بما قدمت أيدينا نسأل الله العفو والمعافاة، ورفع المقت والهوان والنصرة من ذل إنه ولي ذلك والقادر عليه.