بين التاريخ والواقع
هوية بريس – سفانة إراوي
هناك في أحد أصقاع عالم التاريخ الجميل، كانت قبيلة الكايي تستعد للارتحال باتجاه الأناضول، حيث ستتّحِد قبائل الأوغوز الترك وتضع أيديها مع الأيوبيين والسلاجقة. وهناك، هناك يا سادتي، ستتجند الأرواح في شهامة ووحدة حتى تستطيع، حينها وفقط، أن تضع حدا لهمجية المغول الآتية من الشرق، وسماجة الصليبيين المتعالية من الغرب القائمة لأعوام عديدة على خلق الفتنة بين المسلمين، عن طريق ألاعيب فرسان المعبد الثملة غدرا ووقاحة..
اللعبة ذاتها يا سادتي تتكرر، مكشوفة الأوراق والخطط، واضحة المعالم والقسمات، بينة النهاية المشرقة التي تنتظرنا جميعا، بعدالتها التي تسع العالم بأجمعه، عالم يدين بالإنسانية فوق أي راية أخرى، خطَّها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بلسان الحق يومها عندما قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، ولن تكتمل هاته المكارم إلا بعد لأي وألم، وحين يدرك الجميع بأن لا كبرياء في ابتغاء المصلحة، إذ المصلحة الوحيدة التي يمكن أن يستكين الكل في ظلها، هي الإدراك بأن هذا العالم يتسع لنا جميعا، وألا راحة لأحدنا دون راحة الآخر، مهما بلغت قوة الأول وكثرت جراح الأخير.
نعم إنها اللعبة ذاتها أمامنا اليوم، كل الاختلاف الذي نشهده فيها، أن وحدتنا لا تزال بعيدة، حسب ما يظهره مسرح العالم اليوم، وأن الأمور الممهدة لها تكاد تنبئ بدوام الحال واستفحال مرض التشاؤم الخبيث، الذي باتت الألسنة معه مستسلمة لما يلَقن لها في وسائل الإعلام التي تلعب الدور نفسه الذي كان يلعبه فرسان المعبد في ذلك الزمن، إذ كانوا أمتن حصنا وأشد وطأة، لكن كل ما كان يخيفهم أن يبرز صلاح الدين مرة أخرى، ووحدة مباركة تجمع الشمل.
ومن فضل الله أن خرج أرطغرل في شهامة الناصر الأيوبي وشجاعته تماما ووقع ما لا يزال التاريخ يلوكه حتى اليوم، من انتشاء العالم لزمن بعدْل العُدول وقهر الظّلَمة، وهو الحال الذي انقضى بدوره، فسنة الله في كونه قد أبت إلا أن يكون للتدافع نصيب في أي زمن، ومن حكمتها أيضا أن تأتي بالخير بعد الشر، وترحم الضعيف بعد القهر.
إنها اللعبة تتكرر مشاهدها أمام أنظارنا اليوم، بفلسطيننا المحتلة، وسوريانا الجريحة مع ابنتها حلب الطريحة في حضنها، وبلداننا الأخرى المتعبة المنهكة أوصالها من جراء تبعيتها الاقتصادية والسياسية لدول الجوار، العظماء من فرسان المعبد، سدنة المادة وعبادها.
لكن، ما هذا الذي يشعل حمأة الدنية في النفوس، حتى تغدو كالذئاب في عواء يبلغ الآفاق شررا وحنقا، قبل أن تجهز على الإنسانية بأنيابها، فتسقط الهدوء في دوامة العاصفة، وتنتشي بمنظر الرعب أيما انتشاء؟ وإذا ما وجدت النفس استقرارها، كيف تستبيح استقرار الآخر، وتحرم نفسها وإياه السعادة؟
إنها القيامة الدنيوية بكل حذافيرها عندما تبلغ أحداقها الأعالي، فلا ترى إلا شموخها، تتفجر تفجر الماء في الغدير، مسلوبة الروح والضمير، مجنونة بالمادة والشهوة، لتنسكب شلالا يراود الصخور الصلبة عن نفسها، فإذا هي ماضية في قطرها، متشبثة بطوق نجاة ترتجيه منها، ثم لا تلبث أن تتفتّت هذه متجزئة، لتتقعر بعدُ على جنبات الضفاف الهادئة، خاملة وضيعة.. فليس من شيء أحط قدرا، وأجلب للدنية من أن يضحي الإنسان بشرفه وكرامته، في سبيل هناء العيش. وكيف يستطيب له ذلك، وبضع منه منتهك، مسلوب، مغتصب، قد رفسته أقدام الوحشية واستطابت دغدغته؟ ثم إنه ما يلبث أن يتفيأ ظلال راعيه القوي، حتى يلعنه هذا ويطرده من رحمته شر طردة..
إن آية الفصل في هذا الكلم يا سادتي، أنه لا يصلح آخر الأمر إلا بما صلح به أوله، ولا يجوز لنا أبدا أن نظل متنعمين بترقب إشراقة شمس ذلك الأمل الدافئ القادم، دونما حرص على اتخاذ أسباب جلبه، ولا يمكن أن تستطيب لنا حياة، ونحن موقنون بأن الدور علينا حتما، ما لم نقم بواجب رعاية المبادئ في هذا العالم المحزون، وفي هذا نظل دوما مخيرين بين أمرين، إما فرّ بشجاعة وإما كرّ بشجاعتين!