بين الصلاة والزكاة… لماذا ذَكَر القرآن الإعراض عن اللغو؟

05 ديسمبر 2025 17:42

هوية بريس – شريف السليماني

حين نقرأ افتتاح سورة المؤمنون، نجد أن الله تعالى يبدأ ببيان صفاتٍ جعلها شرطاً للفلاح.

هذه ليست صفات تكميلية، ولا أموراً ثانوية، وإنما هي أساس في بناء الإيمان.

ومن بين هذه الصفات التي قد تمرّ على البعض مروراً سريعاً: الإعراض عن اللغو.
قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ • الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ • وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ • وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ
ثم قال بعدها:
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

وما يلفت النظر هنا، أن القرآن -في أكثر المواضع- يقرن بين الصلاة والزكاة مباشرة.
لكن هنا يفصل بينهما بذكر الإعراض عن اللغو.
وكأن الآية تُشير إلى أن القلب لا يستطيع أن ينتقل من خشوع الصلاة إلى فعل الزكاة إلا إذا تخلّص أولاً من ثِقَل اللغو وكثرة الكلام الذي لا فائدة فيه.
بمعنى آخر: طهارة اللسان جزء من طهارة القلب.

ما هو اللغو؟
اللغو هو الكلام الذي لا يضيف شيئاً.
ليس حراماً بالضرورة، ولا يحمل معصية صريحة، لكنه كلام لا نفع فيه.
يمضي الإنسان وقتاً طويلاً في حديث، ثم يكتشف أنه لم يستفد شيئاً، ولا نفع غيره بشيء.
وفي زمن الهواتف ووسائل التواصل، لم يعد الإنسان بحاجة إلى الجلوس في مجلس حتى يقع في اللغو.
يكفي أن يفتح هاتفه، ويتنقل بين المقاطع والصفحات، ليضيع الوقت، ويزداد القلب تشتتاً وفراغاً.

التفاهة الحديثة وصناعة الضجيج
اللغو اليوم له أشكال جديدة.
صفحات وقنوات تجمع ملايين المتابعين، تقدم محتوى تافهاً لا قيمة له، وفيه كثير من السخرية والاستهتار، وأحياناً ما هو أسوأ من ذلك.
ومن المؤسف أن هذه المحتويات هي الأكثر انتشاراً،
فالأكثر انتشاراً اليوم هو الأقل فائدة.
وفي المقابل، المحتوى الهادئ والرصين والعلمي يعاني من قلة المتابعة.
وهذه مفارقة تعكس واقعاً غير صحي في الذوق العام، وتدل على مدى انتشار اللغو وسيطرته على العقول.

حتى في المساجد…
من المؤسف أيضاً أن اللغو أصبح يظهر في بعض المساجد.
فتجد من يتحدث أثناء الدرس، أو يتجاذب أطراف الحديث قبل الصلاة أو بعدها، في أمور لا قيمة لها.
والمسجد مكان خُصّ للسكينة، ولذكر الله، ولجمع القلب على ما ينفعه.
فإذا تحوّل إلى مكان للثرثرة، فقدَ شيئاً من جماله وروحه.

لماذا ينتشر اللغو؟
هناك أسباب كثيرة، منها:
غفلة القلب عن ذكر الله.
عدم تقدير قيمة الوقت.
الفراغ وغياب الأهداف الواضحة.
كثرة ما يُقدَّم من محتوى سطحي في وسائل التواصل.
ضعف الوعي بخطورة الكلمة.

كيف يبتعد الإنسان عن اللغو؟
ليس المطلوب أن يصمت الإنسان طوال الوقت،
وإنما المطلوب أن يعرف متى يتكلم، ومتى يسكت، وماذا يقول.
ومن وسائل ذلك:
أن يستحضر أن كل كلمة تُكتب وتُحفظ:
﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾
أن يسأل نفسه قبل الكلام: هل سيضيف شيئاً؟
أن يختار جلساء يُذكّرونه بالخير.
أن يضبط استعمال الهاتف ويبتعد عن الصفحات التي لا تنفع.
أن يملأ وقته بما هو أفضل: قراءة، ذكر، علم، تربية، أو خدمة للناس.
فالإنسان حين ينشغل بما ينفع، ينصرف تلقائياً عما لا ينفع.

حديث جامع
ويلخّص النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى كله في الحديث المشهور:
«ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيّهم، إلا كان عليهم تِرةً يوم القيامة.»
أي كان عليهم نقص وحسرة.
وفي رواية أخرى:
«إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة.»
فاللغو لا يمرّ بلا أثر،
ومجالس الكلام الفارغ تتحول يوم القيامة إلى حسرة وندامة، حتى لو لم يكن فيها معصية صريحة.

الإعراض عن اللغو ليس صمتاً، بل هو احترام للوقت.
وليس تركاً للكلام، بل هو اختيار للكلمة التي ترفع صاحبها، ولا تُثقله يوم يلقى الله.
نسأل الله أن يجعل كلامنا نوراً، وأوقاتنا عمراً مباركاً، وقلوبنا عامرة بما ينفع ويرفع.
“إن رأيت في هذه الكلمات نفعاً، فلا تبخل بنشرها لعلّ الله ينفع بها غيرك”.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
18°
19°
السبت
19°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة