بين الفايد ورفيقي منطلقات واحدة ومُخرجات متشابهة
هوية بريس – سعيد الغماز
قد يبدو للبعض أن ثقافة الدكتور الفايد مختلفة عن ثقافة عبد الوهاب رفيقي المعروف بأبي حفص. لكن حينما نحلل طريقة تفكير الرجلين ونفكك نمط رؤيتهم وفهمهم للأشياء وكيفية التعامل معها، نجد أن هناك تشابها كبيرا في طريقة التعامل مع الأفكار والأحداث بين الفايد ورفيقي. إن الأمر لا يخرج عن تصور ذهن الرجلين للموضوع وطبيعة الموضوع في حد ذاته إذا اعتمدنا لغة نقد العقل المحض عند الفيلسوف كانط.
إن ما يجمع بين الفايد ورفيقي تُلخصه مقولة لكانط في جملة واحدة “صاحب التجربة بدون نظرية هو شخص أعمى، ولكن صاحب النظرية بدون خبرة هو مجرد شخص يمارس لعبة فكرية”. من أجل ذلك سنقوم بتشريح طريقة التفكير عند الرجلين قبل وبعد التحول 180 درجة عن توجههما الأول.
اختار أبو حفص التوجه السلفي الجهادي من بين خيارات كبيرة ومتنوعة في الساحة الإسلامية. لكنه فضل توجها متشددا يبالغ في لغة الحرام ويعارض كل مظاهر الحداثة في المجتمع وحتى في اللباس، عوض اختيار توجهات متواجدة في الساحة الإسلامية تؤمن بالاعتدال ومنخرطة في التطور ومنها حتى من انخرط في مجالات كالألعاب الرياضية والموسيقى والمسرح والتمثيل. وهي مجالات يحرمها التوجه الذي اختاره أبو حفص.
الدكتور الفايد لا يخرج عن هذا التوجه المتشدد لأبي حفص. فقد صنع لنفسه اسما في مجال التغذية باستعمال لغة دينية وفهم خاص به للدين، لكنه يريد أن يعطيه صبغة علمية. إلا أن تضخم الأنا التي يتصف بها الفايد جعلته يبتعد عن اللغة العلمية ويتحدث بلغة قطعية في قضايا دنيوية محل خلاف حتى بين المتخصصين. الاعتزاز بالذات المبالغ فيه، جعل الدكتور الفايد يؤمن بأنه يعرف كل شيء ويفهم في جميع التخصصات. وهو أمر بعيد عن المنطق العلمي ولا يدعيه الخبراء ولا حتى العلماء الفائزين بجائزة نوبل. ولكي يصل إلى مبتغاه اعتمد الفايد طريقة انتقاد باقي المتخصصين والتنقيص من قيمتهم ليظهر الفايد بمظهر العارف الأوحد والعالم الأكبر.
قد تبدو المنطلقات الدينية لكل من الفايد ورفيقي مختلفة، لكن طريقة فهم الأشياء واحدة عند الرجلين. كان فكر أبو حفص السلفي الجهادي قبل قيامه بمراجعاته، يبالغ في تقديس بعض النصوص الدينية على حساب نصوص أخرى مبتعدا عن الاعتدال ليسقط في التشدد. ونجد الفايد يفكر بنفس الطريقة حين يُسقط القداسة الدينية على قضايا دنيوية خاضعة للمنطق العلمي ويجعل منها حقائق مقدسة، في خلط غريب وشاد بين الحقيقة الدينية المقدسة والمعلومة العلمية القابلة للتجريح. وسنعطي مثالين على هذا الأمر.
المثال الأول اعتباره الصوم معجزة (علما أن الدين لا يذهب إلى اعتبار الصوم معجزة بل عبادة لها أجر عظيم في الآخرة “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” حديث قدسي)، وما دام الصيام معجرة، حسب تفكير الفايد، فهو خارق للعادة وبالتالي صيام مرضى السكري في رمضان لن يؤثر على صحتهم في شيء. إنها لغة بعيدة عن العلوم الكونية وتعكس طريقة تفكير شادة عن منطق الدين الحنيف وبعيدة حتى عن منطوق النصوص الدينية.
المثال الثاني هو زعم الدكتور الفايد أن الحفاظ على الماء في إناء طيني “الخابية أو البرادة” يجعل ماء الصنبور يعود لطبيعته كماء طبيعي تخلَّص من كل المواد التي تُضاف عادة للماء الصالح للشرب. عموم الناس تَرسَّخ في ذهنها اعتقاد أن ماء “الخابية” صحي من منطلق المعتقد الديني. فالإنسان خلقه الله من طين وبالتالي فهذه المادة لها شرعية في المعتقدات، وتبريد الماء في إناء طيني لن يكون إلا نافعا وصحيا حسب هذه المعتقدات. الدكتور الفايد له نفس التفكير الذي يعتقده عموم المسلمين، لكنه حاول إخراجه من دائرة المعتقد الديني إلى دائرة البحث العلمي. والحقيقة أن الفايد هو الآخر ذهب ضحية طريقته في الفهم. فلغة العلم تقتضي القيام بتحليل مكونات ماء الصنبور، ثم وضع نفس الماء في إناء طيني “خابية”، وبعد ذلك القيام بتحليله من جديد. آنذاك تكون النتيجة علمية وصادرة عن تجربة علمية. الفايد لم يقم بهذا البحث العلمي، لكن طريقته الشادة في الفهم، جعلته يَسقط في المحظور من جديد، بإسقاط قناعة عقائدية مرتبطة بخلق الإنسان من طين، والترويج لها من منظور البحث العلمي وهو لا يتوفر على أي تجربة في هذا الموضوع. إنه تفكير يخلط بين المقدس الديني ويُسقط هذه القدسية على المعرفة الدنيوية.
طريقة فهم أبو حفص للأشياء، جعلته يختار توجها سلفيا متشددا يسمح لنفسه بالحكم على الناس ومصيرهم في جهنم. وطريقة تفكير الدكتور الفايد لا تختلف عن طريقة تفكير رفيقي، وهو ما نجده حين طرح المتخصص في التغذية سؤال: هل الله سيُدخل مخترع الكهرباء جهنم؟ آليات التفكير السليمة والنظرة العلمية في فهم الأشياء، تقتضي من متخصص في العلوم الكونية أن يناقش تأثير اختراع الكهرباء على المجتمعات الكونية وكيف أوصلتنا إلى منظومة التحول الرقمي ومجتمع المعرفة والاقتصاد الذكي والذكاء الاصطناعي. لكن طريقة تفكير الدكتور الفايد جعلته يسير على منوال تفكير رفيقي السلفي، بالخوض في مصير الناس هل الجنة أم النار. فنفس آليات التفكير نجدها عند الفايد وعند رفيقي ومن ثم نفهم أوجه التشابه بين فكر الرجلين.
آليات التفكير عند الفايد عالم التغذية، وعند رفيقي السلفي المتشدد، واحدة ومتشابهة. وبالتالي فمن الطبيعي أن نجد نفس الآليات ونفس الطريقة في فهم الأشياء بعد تحولهم 180 درجة عن قناعاتهم السابقة. فعبد الوهاب رفيقي انتقل من تطرف سلفي إلى تطرف في الاتجاه المعاكس. فنفس آليات التفكير ينتج عنها نفس المنطق في فهم الأشياء. تطرُّف أبو حفص السلفي يقابله تطرف رفيقي الحداثي مستعملا نفس طريقة الفايد بإسقاط ما هو معتقد ديني على قناعات فكرية، وهو ما يبدو جليا حين يخلط بين زواج الفاتحة والعلاقات الرضائية التي ينادي بها العلمانيون. أما الدكتور الفايد فنجده هو الآخر، ضحية نفس آليات التفكير ونفس طريقة فهم الأشياء. فالمبالغة في تقديس بعض النصوص الدينية كما يفعل أبو حفص السلفي، جعله يخلط بين القدسية الدينية وقدسية الأشياء الدنيوية، الأمر الذي جعله يسقط في تضخيم الأنا والاعتزاز المبالغ فيه بالذات لدرجة القداسة الدينية. فالفايد المختص في التغذية الذي يفهم في الطب أكثر من الأطباء ولا أحد يفهم أكثر منه في التغذية، هو الفايد العالم الذي يفهم في العلوم الشرعية ويقول ليس لدينا علماء. فنفس آليات التفكير تُعطي نفس النتائج.
والغريب في سيرة الرجلين، هو أن الطريقة المعطوبة في رؤيتهم للأشياء، وضعف ثقافتهم السياسية، جعلتهم يتصفون بالسذاجة في المجتمع. فنجد عبد الوهاب رفيقي سقط في فخ توظيفه من قبل طائفة من العلمانيين لإعطاء صبغة دينية لفكرهم، وهو ما يطرح سؤال ماهية هذا البحث عن إضفاء الصبغة الدينية على فكر علماني غربي. نفس الشيء وقع فيه الدكتور الفايد حين تم استغلاله من قبل فئة تدعي أنها حداثية، وهو ما تسبب له مأساة مجتمعية لأنه دخل مجالا لا يفهم فيه نظرا لضعف خبرته بالفعل السياسي. الدهاء السياسي هو ما يُجيده هؤلاء الذين يدعون الحداثة، فنجدهم يكسبون ويزيد رصيدهم، والفايد يتآكل رصيده العلمي بسببهم.
الفكر يتغير، والقناعات هي الأخرى تتغير. لكن السؤال الجوهري هو في أي اتجاه تتغير تلك الأفكار والقناعات؟ المفيد في تطور الفكر هو تطوير آليات التفكير وطريقة فهم الأشياء. إذا كانت الآليات معطوبة والفهم معاق، فإن الأفكار التي نروج لها ستظل معطوبة وتعاني من الإعاقة ولو غيرنا أفكارنا طيلة حياتنا. هذا ما يعانيه كل من الدكتور الفايد وعبد الوهاب رفيقي، وإلا فسنكون أمام لعبة فكرية.