بين الفرنسية والفرنكفونية.. النقد المعرفي لكشف الأوهام الإيديولوجية
د. إدريس جنداري (باحث)
هوية بريس – الثلاثاء 08 دجنبر 2015
– حالة مرضية.. من الاستلاب إلى الاستمناء الفكري
يسعى الخطاب الديماغوجي، الذي يروجه بعض الفاعلين السياسيين والمدنيين والاقتصاديين الفرنكفونيين، إلى إيهام المغاربة بأن المسألة اللغوية في المغرب مسألة تقنية صرفة، يمكن أن نغير فيها زيادة ونقصانا كما نشاء! ولذلك، فإن اعتماد اللغة الفرنسية في التدريس بديلا للغة العربية هي مسألة ديداكتيكية صرفة يقررها الخبراء التابعون للوزارة الوصية على قطاع التعليم.
المسألة يا سادة أكبر من ذلك بكثير! اللغة، من منظور ابستملوجي، مكون أساسي لتشكيل البراديغم Paradigme (النموذج الإرشادي) -بلغة طوماس كون- لدى الأفراد والجماعات، وذلك باعتباره وسيلة لرؤية الأشياء وطريقة تمثل للواقع في الذهن البشري، كما إن للغة دورا في تشكيل رؤية العالم Vision du Monde -بتعبير لوسيان جولدمان- ولذلك نجد (جون بياجيه) يعير اهتماما كبيرا للدور الذي تلعبه اللغة الأم في التعليم.
لماذا هذا التمهيد/التذكير؟
لأن الكثير من جنود التيار الفرنكفوني في المغرب يتغنون صباح مساء بالدور العلمي الريادي الذي يمكن أن تقوم به اللغة الفرنسية في منظومة التعليم! وهذا الخطاب لا يعدو أن يكون خيالا جامحا أو متخيلا imaginaire بتعبير إدوارد سعيد في حديثه عن الاستشراق، بمعنى أنه لا يمت إلى الحقيقة الواقعية بأي صلة، إنه يجد سنده التبريري في الإيديولوجية الفرنكفونية التي روجت للغة والثقافة الفرنسية كمدخل رئيسي نحو التحضر، بالمعنى الأنتروبولوجي الصرف كمقابل للبدائية، وهذا ما يجد فيه الكثير من جنود الفرنكفونية ضالتهم في التعويض السيكولوجي عن بؤس الواقع الذي أنتجهم ويعيدون إنتاجه بنفس المعايير الرديئة .
إن الأمر، بهذا المعنى، لا يعدو أن يكون نوعا من الاستلاب Aliénation الذي يصل درجته القصوى حينما يدفع صاحبه إلى ممارسة الاستمناء Masturbation الفكري، متوهما أنه بإمكانه أن يسلخ جلده الأسمر في أية لحظة حتى يرضي أسياده الفرنكفونيين!!! وهو بذلك، يسقط في فخ الشخصية المستلبة استعماريا، كما حللها (فرانز فانون) من منظور سيكو-سوسيولوجي في كتابه الرائد(Peau noire masques blancs) وهي دراسة تشرح، بشكل دقيق، نفسية المضطهد، من خلال تشريح نفسية الأسود الواقع تحت سيطرة السيد الأبيض. حيث يعتبر (فانون) أن أخطر الأمراض التي تعاني منها الشعوب المستعمرة، هو مرض التماهي مع المستعمر والشعور بالدونية والرغبة في الانتماء للأقوى، وهذه أخطر أشكال العبودية (عبودية الروح) التي تتجاوز عبودية الأغلال المادية.
إن هذه الصورة السيكولوجية المستلبة، التي يروجها الخطاب الفرنكفوني الديماغوجي، هي نفسها التي تم ترسيخها من طرف بعض الكتاب الفرنكفونيين في المغرب العربي مثل: الطاهر ابن جلون وإدريس الشرايبي ورشيد بوجدرة وأحمد الصفريوي… وجميع هؤلاء يشتركون في صياغة صورة نمطية عن الحضارة العربية الإسلامية، وهي صورة تتحكم فيها مرجعية استشراقية فجة نظرت إلى الشرق كمتخيل وليس كواقع، وقد وجد صانع الكتاب الفرنسي ضالته في مثل هؤلاء الذين لم يكن لهم حظ من التكوين العلمي الأكاديمي، ووظفهم من أجل الترويج لأساطيره حول النموذج الفرنسي (المتحضر) الذي يتم تقديمه كبديل للنموذج العربي الإسلامي (المتخلف)! وقد قامت هذه الكتابات الفولكلورية، بتعبير الأستاذ عبد الله العروي، بدور خطير في تشكيل صورة نمطية عن الذات العربية الإسلامية لدى المتلقي البسيط الذي لا يمتلك أدوات النقد والتحليل، وخصوصا لما تم إدماج بعضها ضمن المقررات الدراسية في التعليم الثانوي التأهيلي (La Boite A Merveilles – Ahmed sefrioui).
و نحن هنا، لا نعمم هذه الصورة على كل الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية، بل إن هناك من الكتاب الذين يمتلكون وعيا فكريا عميقا مكنهم من الفصل بين لغة الكتابة ومتخيل الانتماء، فاستطاعوا توظيف اللغة الفرنسية من أجل الدفاع عن الحق الثقافي العربي في الاختلاف. ولذلك، فقد نجحوا في تجاوز الصورة الفولكلورية لثقافة الشرق، وتمكنوا من تشكيل صورة حضارية متميزة للثقافة العربية، وقد ساعدهم على ذلك إدراكهم الفكري لجوهر مفهوم الاستقلال التاريخي. وهذا ما تمكن من صياغته، فكريا وسرديا، مفكر وروائي موسوعي وعميق جدا، هو أمين معلوف (عضو الأكاديمية الفرنسية)! الذي صاغ صورة موضوعية للشرق/الجنوب في أعمال روائية من قبيل: Léon l’africain حيث صاغ صورة حضارية للرحالة المغربي (حسن الوزان) تضاهي، في إيمانها بالتعددية والاختلاف، صورة الأوربي الحديث المتشبع بروح الفكر الأنواري. وكذلك في عمله les croisades vues par les arabes حيث صاغ صورة في منتهى الإنسانية والتحضر للعرب المسلمين في شخص صلاح الدين الأيوبي، وفي المقابل حضرت صورة الصليبي طافحة بالعنف والدماء.
– بين اللغة والإيديولوجيا
إن المدخل الرئيسي لمقاربة موضوع الفرنكفونية، في المغرب، هو بالأساس مدخل معرفي يسعى إلى الفصل بين معطيات الواقع الموضوعي باعتبارها امتدادا للتحليل العلمي، وبين الأوهام والهواجس النفسية التي توظف الإيديولوجيا بهدف تحريف (من الانحراف) الوعي الجمعي لخدمة أجندتها الفئوية الخاصة. ولذلك، لابد أولا أن نميز بين اللغة الفرنسية كمكون أساسي ضمن المشهد اللغوي العالمي، وبين الفرنكفونية كتوظيف إيديولوجي للغة والثقافة الفرنسية لخدمة أهداف سياسية واقتصادية وثقافية ذات بعد استعماري خالص.
بخصوص اللغة الفرنسية، فهي كباقي اللغات الحية في العالم تخضع لقانون السوق اللغوية Le Marché Linguistique كما صاغة السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو، ولذلك يجب التعامل معها من منظور ثنائية العرض والطلب. فهي باعتبارها لغة أجنبية، لابد أن تحقق أرباحا مادية (بمعنى أرباح خاضعة للقياس) كمعيار لتحديد أولويتها في الخارطة اللغوية، فبقدر استفادتنا منها يجب التعامل معها كغنيمة حرب، كما عبر عن ذلك كاتب ياسين، لكنها بمجرد ما تفقد جدواها من خلال تراجعها في السوق اللغوية، يمكن تعويضها بلغة أجنبية أخرى أقدر منها على جلب الأرباح، بالمعنى المادي الخالص. وهذه المنهجية في التعامل، هي التي توجه الكثير من التجارب العالمية، وخصوصا في آسيا، حيث تتم المحافظة على لغة الهوية (اليابانية، الصينية، الكورية …) كلغة أساسية في التدريس والتواصل، ويتم اللجوء إلى لغة أجنبية قادرة على تحقيق أرباح مادية في علاقة بالعالم الخارجي، وإذا كان اللجوء إلى اللغة الإنجليزية هو السائد، فإن ذلك لا يعود إلى خلفيات إيديولوجية بل يتحكم فيه قانون السوق اللغوية.
أما بخصوص الإيديولوجية الفرنكفونية، فالأمر هنا يتجاوز، بكثير، توظيف لغة أجنبية بأهداف ربحية خالصة، إنه جزء من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية على جزء من الامتداد الإفريقي، مما نتج عنه استئصال ثقافي ولغوي للغات وثقافات الهوية، وتم استبدال ذلك بمكون ثقافي ولغوي هجين، تم فرضه من خلال العنف المادي والرمزي، وذلك بهدف تحقيق الإلحاق الحضاري للشعوب الإفريقية بالامتداد الفرنسي. ولعل هذا هو ما يوضح علاقة الامتداد التي تقيمها منظمة الفرنكفونية مع وزارة المستعمرات التي كانت تناط بها، خلال المرحلة الاستعمارية، مهمة إدارة المستعمرات، ولأن الاستعمار الفرنسي كان، في الأساس، استعمارا ثقافيا ولغويا، فإن المهمة التي كانت تقوم بها وزارة المستعمرات -وما زالت تقوم بها منظمة الفرنكفونية اليوم- هي وظيفة الإلحاق الثقافي واللغوي، وما ينتج عنه، طبعا، من إلحاق اقتصادي يمر عبر السيطرة على المستعمرات، لأطول وقت ممكن، من خلال تحقيق استمرارية استغلالها اقتصاديا، سواء كمناجم للمواد الأولية وأيد عاملة رخيصة، أو كسوق استهلاكية واسعة تفتخر فرنسا بأنها تضم أكثر من 200 مليون مستهلك!!!
حينما نثير الحديث عن حضور الفرنسية، في الواقع الثقافي واللغوي المغربي، فإن المطلوب، بإلحاح، هو الفصل بين البعد المعرفي، وبين البعد الإيديولوجي. فعلى المستوى المعرفي، لا يعارض الانفتاح اللغوي إلا جاهل! ونحن من دعاة الانفتاح الثقافي واللغوي على العالم، لإثراء تجربتنا المغربية وتحقيق أكبر قدر من التواصل مع التجارب العالمية الرائدة. لكن هذا لا يعني غض الطرف عن استغلال شعار الانفتاح اللغوي، من طرف اللوبي الفرنكفوني لتحقيق أجندته الفئوية الرخيصة على حساب مقومات الهوية الوطنية، ثقافيا ولغويا، مما ينذر بخلق جيل فاقد للتوازن النفسي والاجتماعي، كنتيجة مباشرة لما يتعرض له من عنف ثقافي ولغوي في بيئته الاجتماعية الحاضنة، سواء من خلال توظيف وسائل الإعلام، أو من خلال توظيف منظومة الثقافة والتعليم.
إن هذا الفصل، بين البعدين المعرفي والإيديولوجي، بإمكانه أن يضع النقط على الحروف، في ظل واقع اختلط فيه الحابل بالنابل! وأصبحت الشعارات الفارغة الجوفاء بديلا للتفكير النقدي المتحرر من القيود الإيديولوجية المكبِّلة. فدعاة الإيديولوجية الفرنكفونية من مثقفي التزييف(بتعبير باسكال بونيفاس) في كتابه les intellectuelles faussaires يمارسون عنفا ماديا ورمزيا خطيرا على مقومات الهوية الوطنية، مدججين بأسلحة إيديولوجية فتاكة مستعارة من المنظومة الاستعمارية الموؤودة على أيدي الحركة الوطنية المغربية، وهم مدعومون، في ذلك، بقوة الرأسمال الاقتصادي الناتج عن اقتصاد ريعي تتحالف فيه الدولة العميقة، في بعدها المخزني الفرنكفوني، مع الشركات الفرنسية المحتكرة للمجال الاقتصادي المغربي خارج التنافسية الشفافة.
و في ظل هذا التحالف المشبوه، يجد المواطن المغربي نفسه غريبا عن ثقافته ولغته الوطنية التي صوت على دسترتها، وذلك لأن توازنات الواقع العملي أقوى من الدستور نفسه، فإذا كان دستور 2011 ينص، بشكل صريح، على الطابع الرسمي للغة العربية، ويدعو إلى حمايتها وصيانتها وتطويرها، فإن الواقع العملي يبوئ اللغة الفرنسية كلغة رسمية أولى، بل إنه يفتح أمامها، في كل يوم، أبواب جديدة لتحقيق الهيمنة على المشهد الثقافي واللغوي المغربي، مما يهدد خصوصيتنا الثقافية واللغوية التي راكمها المغاربة، لقرون، وفي نفس الآن يفتح أمامنا أبواب المجهول لنتحول من دولة قائدة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إلى بقعة جغرافية تابعة للمتروبول الاستعماري الفرنسي، الذي لا يساوي شيئا في الميزان الاستراتيجي الدولي. كل هذا نزولا عند رغبة بعض (دراري الفرنكفونية) الذين لم يبلغوا بعد مرحلة النضج الفكري والسياسي الذي يمكنهم من تحديد الخيارات الإستراتيجية الملائمة لدولة، مثل المغرب، ضاربة بجذورها في أعماق تاريخ الغرب الإسلامي.
بسم الله
تحية للأخ إدريس الذي أتحفنا بهذا المقال المتميز بموضوعه وعُدته الفكرية ونظرته الموضوعية العميقة …التي لا نجد منها ولو نفحة عابرة في كثير من المقالات التي تنشر في مواقع شهيرة خالية من التحقيق ومساهمة في التضليل والترويج للباطل …مواقع إستمرأت الشهرة فأصبحت تنشر مقالات الاجرام الفكري وتفتح لأصحابها الغريبي الأطوار صفحاتها للطعن في الدين ربا ونبيا وأمة ….فإذا بعثت ردا قاصما للنشر …أهملوه وتركوه جانبا ….ولكن الله بالمرصاد …