بين المادية والزواج
هوية بريس – يوسف الجملي
لعل من أبأس ما يقع في حياة، فقدانٙ الأشياء حقائقها، وذهابٙ جواهرها، ولا يكون ذلك إلا بعد أن يُستلب الأفراد، وتترحل عنهم فِطرهم، فإذا وقع رأيتٙ رسوما خاوية على أقدامها، ضلت غايتٙها، وتنكرت لأصلها، تُنشد الرضا في غير موطنه، وتسعى إلى الظفر في معقل الخسران، وذلك مآل انعكاس الحقائق، وانقلاب المفاهيم، وها أنت ترى – اليوم – الهم والغم، والجبن والحزن، والمآسيٙ والمآثم، لا غاية لها إلا التزايد، ولا مطمح لها إلا تضييق الخناق، مع توافر المسليات، وتزاحم الملهيات، فأصبح الناس ولا أحد سعيد بما يملك، وإن ملك ما ملك، وصار الضجر قرين ظواهر المتع، وأضحى الملل يسري إلى كل شيء، مهما بلغ في الحسن، وسُعي في تجويده، ولعل هذه أينع ثمار المادية، وأعلى مطالبها المنجزة، فهي تريد منك أن تزيد على الطغيان درجة، وعلى منتهى الإسراف مرتبة، ولا شك أن من تجليات سعيها الحثيث، وجهدها الشاق، ما بات مشاهدا بين الناس من تعسير أمر الزواح، وجعلِه واحدا من أمنع المنى، وهذا سبب عظيم في تفشي الفساد، وتهوين المنكرات، فالراغب اليوم وإن امتطى الكواكب، وانتعل النجوم، وكان من أعلم أهل الأرض، قد أصاب من الحسن شطره، ومن الخُلق ما يدرك به درجة القائم الصائم، وارثا المجدٙ عن كلالة، مرتديا العفة متأزرا بالشرف، من أعيان الزمان، يٙبُزُّ في المحافل الأقران، إن رافقته خصاصة، وبان عنه رغد العيش، لم ينفعه باكر صباه، بل يخِيب مسعاه، ويُصد صٙد المعتدي الأثيم، ولا يصادف في طريقه غير جبار أو لئيم، وهذا شنيع في المروءة، يأباه الدين والتذمم، وتستعظمه مكارم الأخلاق، ولكن ذهب كل ذلك عن الناس، وما ذاك إلا لما أريد لنا، ولما شُرِّبناه رغم أنوفنا، فلا نكاد نرى – مما أُجبرنا على مشاهدته – السعادةٙ إلا في وثير الفراش، وناعم المراكب، وفسيح المأوى، وهذا يُرضي عين الناظر، ويقر به كل سائل وزائر، وهو أصل – عندنا – في البهجة عظيم، وركن في السرور لا يُهد ولا يريم، ولستُ هنا أنكر الماديات، وكيف أفعل وقد سماها ربنا قيما، فهي من قوام حياة الناس، وعليها معاشهم، ولكن أن تكون النظرٙ الأول والأخير، ومعقدٙ كل رأي وتدبير، ويُطرّٙح ما عداها، وتُنبذ كل فضيلة سواها، فذلك قبيح في الأصول، ترده صحاح العقول، فمواد السعادة – أصالة – كامنة في طهارة القلوب، وتخليصها من الحسد، وصفاء الدواخل، ورقيها في المعارج، والتأمل في الكون، ورؤية آيات الله، والعيش مع القرآن، والخشوع في الصلاة، ومدارسة العلم، والإحسان إلى الناس، وزد على ذلك ما شئت من صحيح الفضائل، وها أنا أقسم لك لو كان للزوجين من هذا المعنى حظ، لسعدوا سعادة لا يحظى بها أعتى أهل الأرض ترفا، ولا تنكر هذا ولا تحسبنه مبالغة، فإنما هي أحوال تقوم بالنفس، تجعلك بائنا عن العالمين، وقد رأيتُ كثيرا من الأزواج ممن وسع الله عليهم، غاب عنهم هذا المعدن النفيس، يسعون إلى السعادة من كل سبيل، ويتلمسونها في كل ناحية، فمرة يتابعون مسلسلا لا يخلو من حرام، ومرة يشاهدون مباراة في كرة القدم، ومرة يذهبون في سفر، وغير ذلك مما تعلم، مما يطلب الناس به روح قلوبهم، وعلم الله أنهم لا يعودون في كل ذلك إلا بالخيبات، جارِّين أذيال الحسرات، لأنهم باختصار ضلوا الطريق، ولا يأتون ما يأتون إلا والضيق يلاحق صدورهم، كأنه حلف أن يشاركهم أفراحهم، ولو قُدر لهم أن يباشروا ذلك الذي تجده حينما تفهم آية، أو حينما يذيقك الله بعض نسماته، كالحضور في صلاته، أو الفكر في مشهوداته، لعلموا أنهم في الغبن مُغرِقون، من كل خير محرومون، أيها الناس إن سعادة الإنسان بيد خالق السعادة والإنسان، فلا تلتموسها في غير رحابه، ولا تروموا غير كريم جنابه .