بين منع أحمد ويحمان والاحتفاء بإلياس المالكي.. الخطر المهدد للمغاربة

هوية بريس – إبراهيم الطالب
في مشهد يحمل دلالات كثيرة تختزل الواقع المفلس لبلاد المغرب، وقف دكتور باحث في علم السوسيولوجيا أمام مسرح محمد الخامس التابع لوزارة الشباب والثقافة والتواصل، حاول هذا الباحث الدخول لمتابعة أشغال افتتاح المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا، فوقف في وجهه الحراس ليخبروه أنه ممنوع من دخول النشاط، وبتعليمات من الجامعة المنظمة كما أعلمه أحد حراس النشاط.
لو كان طالبا في الجامعة لكانت عظيمة من العظائم، فما بالك إذا كان الممنوع هو د. أحمد ويحمان الذي ألف في هذا العلم مؤلفات، وألقى المحاضرات، مع ما يمثله من خزان للثقافة المغربية بوصفه عاصر أجيالا.
أكيد أن السيد ويحمان كان يريد أن يتابع النشاط لكنه من المؤكد كذلك كان يضمر عزمه على الاحتجاج على وجود صهاينة يأتمرون مع متصهينين على الفكر والثقافة والعقل الجمعي المغربي. ورغم ذلك فهذا المنع له دلالة تزيد وضوحا وقوة لارتباطه بنشاط مشبوه.
فقد كان يريد وهو الباحث في علم السوسيولوجيا أن يقف في وجه أخطر عملية هدم واستلاب للعقل المغربي وللثقافة المغربية، المتمثلة في صهينة الجامعات، وتحريف دورها في تكوين العقول وما تصدره من أبحاث. رفض أن تصبح الجامعة المغربية أداة تسوغ الانبطاح الشامل لمشروع التطبيع الذي يستهدف كل مناحي الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية الفنية في المغرب.
في الوقت نفسه الذي وَقَع فيه هذا الحدث، كانت وزارة الشباب والثقافة تحتفي بإلياس المالكي، وتمنحه جائزة أفضل مؤثر. لتعطي للمغاربة فكرة عامة عن وظيفتها وعن دورها الحقيقي فهي:
وزارةُ: وتعني السلطة والقوة والميزانية، والتخطيط والتنفيذ.
الشبابِ: وقد وضحت الوزارة بما لا يدع مجالا للشك من خلال مهرجاناتها العديدة، واحتفائها بإلياس المالكي كنموذج للشباب الذي تريده أن يتصدر لإعادة صناعة النسيج الاجتماعي الشبابي.
والتواصلِ: فهي لا تتواصل مع أي كان، بل تختار فقط الرموز الذين يخدمون سياستها التتفيهية من أمثال: محمد رمضان الممثل المصري التافه الذي احتفت به على أعلى مستوى في أكبر تظاهرة ثقافية وهي المعرض الدولي للكتاب في نسخته قبل الأخيرة، لتردفه بالاحتفاء كذلك بإلياس المالكي.
وبين هذا المنع وهذا الاحتفاء يكمن الخطر المهدد للمغاربة، وتتجلى لنا ملامح السياسة الثقافية لحكومة المملكة الشريفة، وتساعدنا هذه المفارقة على الاستماع الواعي للرأي العام المغربي عندما يطرح عدة تساؤلات خطيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، عندما اقتنع أن نوابه البرلمانيين لا يعبرون عن أوجاعه واهتماماته تحت قبتهم، وهي في الحقيقة تساؤلات يطرحها أغلب المغاربة على النخب والعلماء ومن يمثل الشعب المغربي:
من يضع السياسة الثقافية لشعب المملكة الشريفة؟
وما هي آليات تعميم الثقافة المقصودة بهذه السياسة؟
وما هي أهدافها ومن يحددها وبأية خلفية؟
أسئلة وغيرها تبقى معلقة دون أجوبة، في الوقت الذي يتفق العقلاء دون مزايدات أننا في المغرب نعيش حالة من الانهيار الشامل، توجب على من يهمهم أمر البلاد واستقرارها بله تطورها ونهضتها، أن يعيدوا النظر في الأسس التي تبنى عليها ثقافة الشعب، والمنهجية التي تتأسس من خلالها شخصية الإنسان المغربي وقناعاته وما يشكل كينونته.
إن الدولة مطالبة بوضع سياسة ثقافية لتحقيق أهداف ترسخ هوية الشعب المغربي وتمنع اندثار كينونته ومنظومة قيمه، كما هو حال الدول التي تحترم شعوبها، لكننا في المغرب قد رفع ساستنا شعار الانفتاح، فصرنا مجتمعا يعشق التفاهة، ويطبع مع الرذيلة، ويكره الفضيلة والقيم لأن ساسته أقنعوه بأنها نوع من القيود على الإبداع، لنعيش عقودا من التيه السياسي ازدادت حدته مع بداية العهد الجديد، وانطلاق الحرب على التطرف والإرهاب، لتوضع سياساتُ التعليم والثقافة بشكل يخدم أهداف تلك الحرب التي جعلت مرماها منظومة القيم والدين والعقيدة والسلوك، لنستيقظ اليوم على حقيقة الإفلاس التعليمي والثقافي.
ويمكننا أن نقرأ نتائج هذا التيه المنتِج للإفلاس بالرجوع إلى لغة الأرقام، حيث نجد المجلس الاقتصادي والاجتماعي يكشف لنا من خلال دراسة تم الإعلان عنها في شهر ماي 2024 بالرباط أن مليونا ونصف المليون من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة في المغرب يوجدون في وضعية “بدون عمل وبدون شغل”، وحسب أحمد رضى الشامي الرئيس السابق لنفس المجلس فإن عدد العاطلين بدون عمل ولا تعليم، يصل 4.3 مليون (أربعة ملايين و300 ألفا) إذا تم اعتماد السن بين 15 و34 سنة.
وحسب رئيس المجلس المذكور وما صرح به خلال ندوة صحافية بالرباط بالتاريخ المذكور، فإن معدل بطالة الشباب في المغرب وصل 35 في المائة في 2023، كما وصل الهدر المدرسي إلى 331 ألف حالة سنويا، وقد وصفه الشامي بأنه “رقم مهول”.
فهذه الأرقام لها دلالاتها التي تفسر لنا الظاهرة الطوطوية، وتوضح الأسباب الكامنة وراء ارتفاع عدد متابعي المؤثرين الذين ينشرون التفاهة، حيث يجلبون الملايين من هذا الكم الهائل الذي تمثله الأرقام المذكورة.
فالسؤال الذي يجب طرحه هو:
لماذا يجمع المؤثرون ملايين المتابعين من المراهقين والشباب؟
ولماذا غرق المغاربة في التفاهة والتهتك وقلة الحياء رغم أن الشعب لا يزال يوصف بالمحافظ؟
إن السبب في نظرنا مركب له عدة واجهات متنوعة مؤثرة في إفراز هذه النتائج، لكن تبقى المعضلة التي أفرزت هذا الواقع المرير في نظرنا- هي أن الدولة في انخراطها خلال 25 سنة الأخيرة في الحرب الأمريكية ضد التطرف والإرهاب، قد انتهجت سياسةً اعتمدت على شقين أساسيين كشقي مقص اشتغلت بهما ليل نهار على تمزيق النسيج الثقافي المغربي.
الشق الأول:
هو لَبْرلة المجتمع من خلال فسح المجال لدعاة العلمانية، وتيسير انتشار أفكارهم ودعمها بالمال، وذلك لمجابهة عملية أسلمة المغرب.
الشق الثاني: إعادة النظر في مخرجات الثوابت وتوجيهها نحو الإسلام المغربي، المتصالح مع الليبرالية وليس الإسلام “الإسلامي”.
فاقتضت عملية اللَّبْرلة مزيدا من الانفتاح على باقي الثقافات، ليصبح المغرب “مغرب الثقافات” هكذا بالجمع، حيث تذوب ثقافته في ثقافات الغير، لتصنع له ثقافة تمنع ويحمان وتحتفي بِطوطو والمالكي.
كما اقتضت عملية صناعة الإسلام المغربي، خلق إسلام لا تُرفع فيه الثوابت الدينية إلا في وجه رواد المساجد والدعاة والعلماء، لمحاصرة تأثيرهم في المجتمع، إسلام متسامح مع الربا خدمة لليبرالية، ومع الخرافة لتعطيل العقل النقدي، إسلام مغربي طقوسي لا يزعج الفرانكفونية ولا قيمها المنفتحة، ولا الثقافة الأمريكية التي تجعل من الراب ديانة تمزج بين المخدرات والسخط، يصرف من خلالهما مئات الآلاف من الشباب اعتراضهما على الواقع، بالكلام والدخان والعري والزنا والرقص والكلام الساقط.
لقد صار واجبا على من يُشَخِّص مصلحة النظام المغربي قراءة نتائج السياسات التي انتهجت في الـ24 سنة الماضية، خلال ما سمي بالحرب، والتي تم فيها:
– عزل عدد كبير من الخطباء المؤثرين
– تجديد الخطاب الديني للاستجابة لإملاءات الغرب
– محاربة أسلمة البلاد والعبث السياسي
– عزل عشرات المديرين لأنهم مستقيمون بدعوى انتماءاتهم للتيارات الإسلامية
– التضييق على الكتاتيب القرآنية، وتعقيد مساطر إنشائها
– إطلاق يد العلمانيين في وسائل الإعلام الرسمية ومنع كل من تشم فيه رائحة الاستقامة
– الدعم السخي للجرائد العلمانية لمحاربة المد الإسلامي
– محاربة التيارات الإسلامية ومنع أنشطتها إلا قليلا ذرا للرماد في العيون
– إغلاق 65 دارا للقرآن
– التساهل في إعطاء رخص بيع الخمور في الأسواق الممتازة والترخيص في فتح المئات من المراقص والملاهي، وغيرها من مئات التدابير والقرارات، التي كان لها الأثر المباشر في إفراز هذه الوضعية المتأزمة الخطيرة
– إغراق الساحات العامة بالمهرجانات التي تشجع الفن الهابط لتوسيع دائرة هيمنة التفاهة.
أليس طبيعيا أن تكون هذه المصيبة الأخلاقية والثقافية والتربوية التي نعيشها هي النتيجة الحتمية لتلك التدابير والقرارات؟
فبدل أن يهيمن المذهب المالكي هيمن إلياس المالكي، وبدل أن يَشيع تصوف الجنيد السالك ساد سلوك طوطو وهبال الفايد.
فمن سيحاسَب على هذه النتائج المدمرة للطريقة التي تمت بها محاربة التطرف؟
ومن سيتحمل مسؤولية تلك السياسات الرعناء الحمقاء، التي أوصلتنا إلى هذا الخراب؟
ولماذا لا نزال رغم كل هذه النتائج نتشبث بهذه السياسات؟
هذا فيما يتعلق بدور الحكومة والدولة والمسؤولين، أما النخب الحرة ورؤوس الأموال وكل الجمعيات في كل المجالات، فعليهم تحمل المسؤولية اتجاه بلادهم وشعبهم ودينهم وربهم سبحانه، حيث على الجميع أن يواجه السيل العرم الذي يجتاح مغرب المرابطين والأشراف، وذلك بالاهتمام بالملفات الكبرى ذات الارتباط بالتعليم والتربية والثقافة وذلك من خلال:
– إنشاء الجمعيات التي تعنى بدعم التربية والتكوين في المستوى الأولي، ومصاحبة الأطفال بالأنشطة الموازية التثقيفية والتكوينية طيلة مراهقتهم حتى يجتازوا الباكالوريا، فالمجال الجمعوي يمكنه تغطية كل المناحي والمجالات التي من شأن الاشتغال فيها وعليها، أن يوقف سيل الإفساد، فيتقوى الفعل الإصلاحي الذي يدفع إلى السمو وينتشل الشباب من هوة التفاهة والسفاهة الممنهجتين.
– صناعة المحتوى الهادف المؤثر: فالنخب المؤثرة من صانعي المحتوى، ينبغي لها أن تستهدف التفاهة وصانعيها، وتُكثر من الإنتاجات الهادفة التي تغني المعارف، وترفع مستوى الذوق. وهذه الفئة (المؤثرون) عليها ألا تغفل استكمالها لتكوين ذواتها بما تحتاجه لأداء رسالتها وفق المطلوب شرعا وفكرا وثقافة، وهنا ينبغي للعلماء والدعاة أن يتواصلوا مع أمثال الشاب إلياس المالكي، ممن يحترمون الدين ولا يعبثون بالمقدسات لتحسيسهم بهذا الخطر الداهم للمجتمع المغربي.
– قيام السادة العلماء والدعاة بردم الهوة بين الخطاب الشرعي وواقع الناس، فالشرع إنما أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى الأرض ليأخذ بيد الإنسان فيرفعه إلى مستوى الاستخلاف الذي أكرم الله به ذرية آدم.
– تحمل الآباء والأمهات لمسؤولية تربية النشء، وحمايته من كل المؤثرات التي تجعله عرضة للاستلاب الثقافي، والعمل على تعليمه الدين وتربيته وفق المنظومة القيمية الإسلامية.
– تحمل الجميع مسؤولية الحفاظ على الهوية المغربية ضد أي اختراق يهددها، والعمل على تقوية الجهات التي تشتغل على ذلك.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.



